مقاربات في تجاوز سردية عالم الحريم داخل المكان المديني الإسلاميالعمارة والمدينة الإسلامية وجندرة المكان

2016/08/06
Updated 2016/08/06 at 9:57 صباحًا

05j300

في سياق قراءته لتاريخ العلاقة بين الجنس والمدينة العربية الإسلامية، يرى السوسيولوجي التونسي عبد الصمد الديالمي أن العقل السلالي (القبلي) استطاع أن يحافظ على وجوده وهويته داخل المدينة العربية، أمام الهوية والرؤية الإسلامية التي سعت إلى نسف الهويات الانقسامية داخل هوية واحدة، هوية مدنية، هوية دار الإسلام.
وقد تمثلت هذه القدرة من خلال كتابة معنية بالفضاء، أي بفضل تنظيم انطوائي للفضاء، يقوم على النظر للعمارة بوصفها عمارة دفاعية (غياب الشرفة، غياب النوافد، المدخل المكوع) تعبر عن إرادة حياة سلالية، أي عن إرادة «الاحتفاظ بكل فتيات العائلة لكل فتيان العائلة». وبذلك نجد تناسقا واضحا بين هذه الاستراتيجية الزواجية الداخلية وذلك الدفاع الانطوائي، فهو معمار يحمي استمرار «الأنا» من خلال تحوله إلى حرم يحمي الحرمة، وهي حرمة «الأنا» في نهاية التحليل، وذلك هو التمزق بين المطلب السلالي (الخصوصي) والمثل الأعلى الإسلامي، وهو تمزق يتحول إلى منطق عملي ينسحب على الفضاء والجنس معا. وبناء على ذلك يرى الديالمي أنه من الواجب الإقرار بتداخل صميمي بين الجنس والمعمار، فكل واحد منهما يخترق الآخر وكل واحد منهما يُخضِع الآخر ويقيده بالقيم التي يتقيد بها هو نفسه، كما أن تقسيم الفضاء إلى أمكنة خاصة بالرجل وأخرى بالنساء، وهو ما يسميه عبد الوهاب بوحديبة بـ «الحدود الجنسية»، يثبت وجود علاقة شعورية بين الفضاء والجنس، فكل مستهلك للجنس يعرف تبعا لجنسه، أين يجب عليه أن يكون داخل الدار وفي المدينة.
وفي رؤية شبيهة برؤية الديالمي، ترى الأنثربولوجية الأمريكية جانيت أبو لغد في مقالة بعنوان «المدينة الإسلامية – الأسطورة التاريخية، الروح الإسلامية والصلة بالعالم المعاصر»، أن الفصل بين الجنسين كان واحدا من العناصر التي ساهمت في تكوين هوية المدينة الإسلامية. مع ذلك وبعد مشاهدتها نساء القاهرة الفقيرات في الثمانينيات من القرن العشرين يمشين بالأزقة المألوفة للأحياء التي يعشن فيها، وهن أقل تحجبا من قبل، تلاحظ أبو لغد أن بعض الأنماط السلوكيّة لا تندرج بالكامل في واحدة من الدائرتين العامة أو الخاصة، بل تحتاج الى دائرة ثالثة، مكان «شبه خاص». وضمن هذه الفئة الثالثة، يكون السلوك المقبول للفصل بين الجنسين أكثر سلاسة، ويتعدى فيه الولاء العائلة أو القرابة، ويستطيع الرجل والمرأة، على حد سواء، التحرك بسهولة أكبر في أمكنة «الحارة».

تلوين المدن الإسلامية

ورغم أهمية الدراستين السابقتين، إلا أن الملاحظ حيالهما أنه وفي سياق إعادة تقسيم المكان العام/الخاص كأداة منهجية لفهم المدينة الإسلامية، فقد حافظتا في سياق تحليلهما لسيمياء المكان المديني الإسلامي على تعريف للجندر يفصل بين جنسين، ذكر وأنثى. ورؤية للمكان المديني بوصفه مقسما في دائرتين، عامة وخاصة، الأمر الذي شكل حالة من الرفض حيال هذه التقسيمات لدى عدد من الباحثين والمؤرخين المختصين بالهندسة المعمارية والتقسيم المديني للعالم الإسلامي، حيث باتوا يعتقدون أن فرض اختزال أنماط المكان المتعددة في ثنائية ذكر/أنثى أو عام/خاص لا تستجيب على نحو صحيح للعمليات المعقدة التي لونت من جهة الجندر المكان في عدة مناطق من العالم الإسلامي، حين أدت نساء العائلات المالكة (وخاصة العثمانية) أدوارا رائدة في تشكيل وتلوين أمكنة المدن الإسلامية بهذا الجنس أو ذاك، في هذا السياق، ترى ليزلي بيرس في كتابها «حريم الأسرة الإمبراطورية: المرأة والسلطة في الإمبراطورية العثمانية» أنه خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر «كان المجتمع العثماني مقسما إلى دوائر يسود فيها التمييز بين الأكثر حظوة والعادي، بين المقدس والمدنس، أكثر مما تسود فيه مبادئ العام/الثروة المشتركة/الذكور والخاص/الداخلي/الإناث – وهي تمييزات تتعارض مع التقسيم التقليدي وفقا للجنس».
من جهة أخرى، نجد دراسة للمؤرخة التركية لوسيان شيونو كاك أستاذة في قسم علم الآثار وتاريخ الفنون في جامعة كوش/، تركيا؛ بعنوان «المدينة المقسمة بحسب الجنس»، التي نشرت في كتاب «المدينة في العالم الإسلامي» تحرير سلمى الجيوسي وأندريه ريمون، الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في مجلدين وضم دراسات لما يقارب من 45 باحثا في تاريخ المدينة الإسلامية، ترى فيها الباحثة كاك، أن جذور «الحريم» ليست إسلامية، إلا أنه لطالما اقترن ببلاط الحاكم المسلم أو برب عائلة كبيرة. وهكذا يجري وصف الحريم بشكليه: حريم البلاط، وحريم العامة، بوصفه أكثر الأمكنة فصلا بين الجنسين في العالم الإسلامي المديني. يقع الحريم في الحرم الداخلي للقصر، أو في أبعد غرفة من المنزل، ويعد مكانا خاصا محددا وغير مختلط، يقع في شكله البلاطي على أطراف المدينة التي يوجد فيها أو خارجها أو يطل على أماكنها. ويسمح فقط لبعض الرجال ذوي الامتيازات بدخول الحريم الذي يتألف بأغلبه من النساء. وتعد غرف الحريم في قصر توبكابي في إسطنبول واحات للعزلة النسائية، غالبا ما وصفها المراقبون بأنها سجون نسائية، وليست مؤسسات طبعت القسم الأكبر من جغرافيات البيئة المدينية المحيطة.

تخصيص المكان حسب الجنس

وهنا كان الجنس- بحسب المؤرخة- عاملا اساسيا يحدد إلى اي مدى يكون مكان مديني محدد محظورا أو متاحا لشخص ما. إلا أن العمر والدين والمكانة الاجتماعية كانت هي الأخرى من العوامل المهمة. فقد كانت بعض أجزاء المدينة نصبا تذكارية معينة خاضعة للفصل الجنسي المؤقت، كما أن حركة إعادة تخصيص مكان معين لجنس دون الآخر غالبا ما كانت تحصل في أحياء المدينة، ولا سيما في أوقات الطقوس أو الاحتفال.
ولا بد من التدقيق في نقاط الالتقاء بين الجنسين، وفي هذه العوامل الأخرى، بدلا من الاكتفاء بفحص عامل الجنس وحده. من هنا تعتقد المؤرخة أن التوازن الجندري للمكان المديني لم يكن يتحدد داخل الفضاء المديني العثماني من خلال قرارات ذكورية، وإنما أيضا نتاج عملية مستمرة، عملية تبادل أدوار دائمة بين الجنسين وبين الأمكنة الاجتماعية في المدينة التي تعمل على مد وترسيخ أو نقض قرارات جعل أمكنة معينة للرجال وأخرى للنساء. فنجد مثلا من خلال قراءة لبعض الوثائق العثمانية في القرن السادس عشر أن خروج النساء من ذوات المكانة الاجتماعية والاقتصادية الدنيا، المسلمات وغير المسلمات، إلى الأمكنة العامة أمر لا مفر منه. وكان الخروج إلى الشارع يعني أكثر من مجرد حركة على طريق الجامع أو الحمام العام، فقد كان دخول الأسواق أمرا لا مفر منه، خاصة في غياب الخدم أو الذكور الذين في وسعهم القيام بهذه الوظيفة. وعلى الرغم من أن أغلب البائعين في الأسواق المدينية الكبيرة كانوا من الرجال، إلا أنه كان مسموحا للنساء شراء وبيع السلع، كالأصواف والأشرطة وغيرها، في أسواق الأحياء المدينية طالما أنهن لا ينافسن بقية التجار، ولا ينتهكن القوانين.
من ناحية أخرى، ترى الباحثة أن هناك تراثا غنيا حول النساء اللواتي طبعن العمارة الإسلامية وأنجزن مشاريع معمارية هائلة، بدءا بنساء البلاط الإسلامي الملكي في أيامه الأولى، ومنهن زبيدة زوجة الرشيد، وصولا إلى النساء العثمانيات في أوائل فترة الحداثة أمثال خرم وطرخان سلطانة. فقد دفعت التغييرات الحاصلة في السياسات العثمانية، في ما يخص الخلافة في منتصف القرن السادس عشر، بنساء البلاط الملكي، ولا سيما والدات الأمراء العثمانيين، إلى الاقتراب أكثر فأكثر من أوساط السلطنة في إسطنبول. وفي عملية تسميها بيرس «نزوح السلطنة» حيث كانت العائلة المالكة تنزح تدريجيا من المقاطعات لتستقر في البلاط الملكي في العاصمة إسطنبول. وكان لهذا التغيير في مكان وجود أفراد العائلة المالكة تأثير في المرحلة التي استطاعت نساء العائلة المالكة خلالها أن يمددن الطريق لسلطاتهن. وقبل منتصف القرن السادس عشر، كانت أبرز المشاريع المعمارية التي بنتها نساء العائلة المالكة العثمانية تنفذ في المراكز الحضـــرية خارج العاصمة إسطنبول. وكانت أمهات ورثة عرش السلطنة، ومن خلال تأدية دور الحارسات والمستشارات لابنائهن، تتولين إدارة معظم أعمال قصور المقاطعات التابعة للأمير في مختلف مناطق الإمبراطورية. وفي الأسر الملكية في المقاطعات، غالبا ما كانت والدة الأمير بصفتها الأكبر سنا في البلاط تؤدي دور مدير الشؤون المعمارية. ولكن مع بدء النزوح التدريجي لمساكن الأمراء نحو إسطنبول، كان رد نساء العائلة المالكة في تركيز جهودهن في مجال البناء في العاصمة أكثر من المقاطعات.
وباستنثاء مسجد السلطان أحمد الذي تم بناؤه في النصف الأول من القرن السابع عشر، كانت معظم المساجد في العاصمة إسطنبول منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى القرن السابع عشر، وكذلك محيطها، بطلب من نساء البلاط العثماني وإشرافهن، مثل زوجات السلاطين العثمانيين وبناتهم وأمهاتهم.
وفي العالم العثماني، لم تكن المعايير الاجتماعية والثقافية تسمح بظهور علني أكبر لنساء العائلة المالكة، من هنا، جاء التركيز على العمارة لتحل محل وجود المرأة الملكية العثمانية. وأصبحت الهندسة المعمارية والطقوس المحيطة بها بالنسبة إلى النساء العثمانيات اللواتي ساهمن في حركة العمارة، رمزا لتقواهن وسلطتهن ووجودهن الفعلي في الإمبراطورية. وكان مجمع مسجد يني جامع في امينونو في إسطنبول الذي شيدته طرخانة سلطانة في القلب التجاري للإمبراطورية العثمانية أحد تلك المعالم. فقد صمم الجناح الملكي ليكون مركزا لمراقبة الأماكن التي يطل عليها، وكان يسمح لوالدة السلطان بمراقبة ما يجري حول المجتمع، إذ كانت (بسبب الجندر) ممنوعة من الوجود في عدة أماكن من مجمعها. كذلك، كان يمكن رؤية حركة العمل في أرصفة الجمارك في امينونو من ناحية الجناح الملكي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أي نشاط تجاري أو عسكري كان يدور عند مدخل الميناء وفي مركز جمارك امينونو، كما يمكن رؤية المدخل إلى القبر الضخم الذي بنته طرخان سلطانة لنفسها، والبوابة الشرقية المؤدية إلى السوق المزدحمة، والمدخل المؤدي إلى المدرسة الابتدائية.
وبذلك، فإن تصميم مجمع مسجد يني لم يكن من باب المصادفة أو كما يعتقد بعض الباحثين «مجموعة تنظمت عشوائيا»، بل كان منظما بطريقة تسمح لوالدة السلطان بالنظر الى أماكن المجمع كافة، حيث كان يمنع وجودها فيها.
وعلى عكس ما يرى بعض مؤرخي العمارة، من أن تصميم هذا المجمع هو تدهور في مبادئ التخطيط العمراني في حقبة ما بعد سنان، فإن تصميمه، المتمحور حول نقطة «القصر»، يمثل إبداعا معماريا يستجيب للمكانة المتغيرة للأميرات العثمانيات، خاصة لوالدة السلطان خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر.

لمسات نساء العائلة المالكة

ترى الباحثة أنه بدءا من القرنين السادس عشر والسابع عشر، بدأت نساء العائلة المالكة وبالتدريج يملأن الفراغ البصري والطقسي الذي خلفه السلطان العثماني، وأصبح وجودهن ملموسا من خلال مشاريع العمارة، التي باتت تتركز في وسط الإمبراطورية بفضل مشاركتهن الواضحة، وإن محجبات، في المواكب والحفلات الملكية التي يقدمها البلاط العثماني. ويفيد المسافرون الأوروبيون بأن الجولات الملكية التي شاركت فيها النساء كانت ضخمة بالفعل. فكان موكب طرخان سلطانة في عام 1668 يتألف من أكثر من ألف شخص، وعلى الرغم من أن السلطانة أثناء مرورها في السوق لم تكن على مرأى من الناظرين، إلا أن وجودها كان باهرا فعلا. ومن وراء ستار نافذة عربتها، كانت تراقب الحشود المبتهجة وتمنحها فرصة أن تكون في حضرتها الملكية لمدة ثلاث ساعات.
تخلص الباحثة في نهاية دراستها إلى خلاصة مهمة، حيث ترى أن الأرشيفين المادي والمكتوب لدراس المدينة العثمانية، يظهر لنا أن كل أفراد العالم العثماني –الجندر، والنخب، وغير النخب، والسكان المدنيين وغير المدنيين– كانوا جميعا يدفعون باستمرار حدود الأمكنة التي خصصها المجتمع لتتناسب وقيود الجندر.
وقد عبروا عن ذلك من خلال العمارة، والتجارة والرموز والاحتفالات، في عملية مستمرة من إعادة تعيين وجندرة الأمكنة التي كانت في الواقع أكثر ازدحاما من ثنائيات العام (الذكورة)/ الخاص (الأنوثة).

القدس العربي – محمد تركي الربيعو

٭ باحث سوري

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً