لم يعد امتلاك الشركات الأميركية والأوروبية فروعاً في إسرائيل، يثير حفيظة أحد. اندثر «الزمن الجميل» الذي كان فيه مكتب المقاطعة يصدر لائحته السوداء، فترتعد الفرائص خوفاً على الأرباح. اليوم، لم يعد عمل أي شركة داخل الكيان الغاصب، حتى في المجال الأمني، يحول دون فتح الأبواب على مصاريعها أمامها
عملياً، لم تُخرج إسرائيل من لبنان إلا «عسكرها». مرّ أكثر من 13 عاماً على تحرير الجنوب. خلال هذه الفترة، واصل العدو تغلغله الاستخباري و«التطبيعي» في لبنان، عبر طرق عدة. وآخر فصول التجسس الإسرائيلي، هذه الأيام، زرع أجهزة تجسس على طول الحدود مع لبنان، حتى بات العدو قادراً على التنصّت على كل الاتصالات في لبنان، بحسب ما تكشفه المداولات الجارية في لجنة الإعلام والاتصالات النيابية، وهو ما أكدته أخيراً اللجنة الوزارية الثلاثية التي وضعت على طاولة اللجنة تقريراً أمنياً مفصلاً عن اختراق إسرائيل للاتصالات والداتا والأفراد.
لكن الأخطر، ربما، أن في لبنان من يسمح بعمل شركات تتمتع بتاريخ من العمل «الأمني» داخل أراضي الكيان الصهيوني، ضارباً عُرض الحائط بالمحاذير الأمنية والأخلاقية. ومن هذه الشركات «G4S»، وهي شركة بريطانية ــــ دانماركية، مقرها الرئيسي في المملكة المتحدة. الشركة، التي أسسها الدانماركي ماريوس هوغريف في كوبنهاغن قبل أكثر من 100 سنة، تعرّف عن نفسها بأنها «مجموعة عالمية رائدة في مجال حلول الأمن الدولي، وأنظمة الأمان حول العالم، وفي تطوير أنظمة البرامج والأجهزة الحديثة في البلدان والقطاعات التي تُعَدّ مخاطر الأمن والسلامة فيها تهديداً استراتيجياً». وهي تعدّ ثالث أكبر موظِّف قطاع خاص في العالم، وتعمل في 125 دولة بالشراكة مع حكومات وشركات ومنظمات، لـ«توفير حلول متكاملة للتحديات الأمنية».
إلا أن الدول العربية تأخذ حيّزاً كبيراً من نشاط «G4S»، ويكاد العالم العربي يكون مسرح عملياتها الحقيقي؛ إذ تعمل في اليمن، قطر، السعودية، الإمارات، عمان، لبنان، الكويت، الأردن، العراق، مصر والبحرين. ومن أنشطتها المعروفة تقديم خدمات أمنية خاصة للمطارات في العراق والإمارات العربية المتحدة وقطر، وفي أمن موسم الحج في السعودية (راجع «الأخبار»، 7/10/2013)، وتوفير الحراسة للسفارات الأميركية والأوروبية في كافة أنحاء العالم العربي، وفي أفغانستان.
حتى الآن، يبدو كل شيء «طبيعياً»؛ إذ لم يعد امتلاك الشركات الأميركية والأوروبية العاملة في لبنان والعالم العربي فروعاً في إسرائيل، يثير حفيظة أحد بعد «اندثار» مكتب المقاطعة التابع للجامعة العربية. لكن الاطلاع على «السيرة الذاتية» للشركة، وهي سيرة حافلة بـ«نشاطات أمنية» في إسرائيل، يطرح عشرات الأسئلة عمّا إذا كان نشاطها العلني يخفي خلفه أعمالاً تجسسية لمصلحة الدولة العبرية.
وقد يكون عمل الشركة في لبنان معروفاً عند الأجهزة الأمنية اللبنانية، لكن كثيرين من اللبنانيين لم يسمعوا بنشاطها الذي يشمل «خدمات للمنظمات التجارية والحكومية في مجال استشارات المخاطر والأمن»، و«الحلول النقدية»، و«الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة الدورة النقدية للمصارف والمؤسسات المالية وتجار التجزئة». مع العلم أنها أسست فرعاً لها في لبنان عام 2005. الإستفسار عن ماهية عملها ليس صعباً. بالإتصال على الرقم الموجود على موقع الشركة الخاص، والسؤال عن كيفية الإستفادة من خدماتها، تنزل على المتصل لائحة طويلة تتحدث عن «تأمين الشركة نقل الأموال، وتوفير المواكبة اللازمة لكبار الشخصيات والحراسة للمراكز التي تحتاج إلى فريق أمني». بالإضافة إلى «تركيب أجهزة مراقبة وتفتيش».
الحديث عن الشركة التي تتعامل مع عدد كبير من المؤسسات في لبنان يأتي بعد إثارة أحد المصارف اللبنانية، من التي تتعامل مع «G4S» في مجال «أمن شبكات المعلومات»، الموضوع مع أحد الأجهزة الأمنية. فبعد تسلّم المصرف مراسلات عدّة عبر قنوات التواصل الاجتماعي من هيئات ومنظمات تعترض على تعامله مع «G4S»، طلب من الجهاز الأمني المساعدة في إعداد تقرير عنها، عبر إرساله كتاباً خاصاً كانت «G4S» قد زودته به، يشرح تاريخ عملها في لبنان وفي بلاد أخرى. وبناءً عليه، كلّف الجهاز الأمني إحدى قطعاته بجمع المعلومات عن الشركة التي تتخذ مقراً لها قرب السفارة الأميركية في عوكر.
وقد ركّز الجهاز الأمني في تقريره على السيرة المهنية للشركة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة حيث «تقدم الشركة تجهيزات وخدمات أمنية للسجون التي يُحتجز فيها الفلسطينيون داخل إسرائيل وفي الضفّة الغربية المحتلّة». كذلك «توفّر خدمات أمنية للشركات في المستوطنات». وفي عام 2007، «وقّعت «G4S» عقداً مع مصلحة السجون الإسرائيلية لتوفير أنظمة الأمن والخدمات الأخرى»، و«توفير النظام السجني، الذي يضم السجناء السياسيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة داخل» الأراضي المحتلة منذ عام 1948. و«توفّر الشركة معدّات لسجني عوفر وكيشون ومرافق الاحتجاز التي وثقت منظمات حقوق الإنسان التعذيب المنهجي الذي تمارسه في حق السجناء الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال السجناء».
ويبدو أن الشركة متواطئة مع جوانب أخرى من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، فهي «توفر المعدات والخدمات لنقاط التفتيش الإسرائيلية في الضفة الغربية، التي تشكل جزءاً من مسار الجدار غير القانوني في الضفة، ولمحطات عزل الأراضي ومحاصرة غزة». وقد وقّعت أيضاً عقوداً لتوفير المعدات والخدمات لمقر الشرطة الإسرائيلية في الضفة والشركات الخاصة في المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية». والجدير بالذكر أن الشركة متورطة بالعمليات العسكرية الإرهابية التي يمارسها الاحتلال في فلسطين عبر «تنفيذ موظفيها لعدد من العمليات الأمنية لمصلحة سلطة الاحتلال». وقد حاولت الشركة إبعاد الانتقادات التي تواجهها من المنظمات الداعية إلى مقاطعة إسرائيل وداعميها، عبر إعلان عزمها على «إنهاء بعض جوانب المشاركة في المستوطنات غير الشرعية لإسرائيل بحلول 2015».
واللافت أن وجود الشركة في لبنان لم يُثر حفيظة أي من المؤسسات الرسمية. فيما عمدت حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان إلى الاتصال بمكتب مقاطعة إسرائيل في وزارة الاقتصاد وزوّدته بالمعلومات المتعلقة بالشركة التي تثبت تورطها مع إسرائيل. وقد أجاب المكتب بأنه «اتُّخذت الإجراءات اللازمة في حق الشركة، وأن طبيعة تورطها في سجون الاحتلال تفترض عدم السماح لها بالعمل في لبنان لأنه يخالف قواعد المقاطعة التي تبناها لبنان». غير أن الناشط في الحملة سماح إدريس، أكد أن «الهدف ليس إيقاف عمل الشركة، بل الطلب منها إيقاف دعمها للاحتلال»، مشيراً إلى «أننا أرسلنا منذ شهرين إلى 17 شركة ومؤسسة في لبنان، تعمل مع G4S، مراسلات تطلب منها إعادة النظر في تعاملها معها، لكننا لم نلق جواباً حتى الآن». ولفت إلى أن «الحملة في صدد القيام بمؤتمر صحافي لمتابعة الموضوع إن لم تُتخذ الإجراءات اللازمة».
عن الاخبار اللبنانية