الفيلسوفة الخالدة هيباشيا أو··· أيقونة التنوير والأنسنة عبر العصور
بقلم: محمد دامو
اغتالها التعصب الأعمى في زمن زحف فيه الجهل المقدس على حصون العقل والعلم··
تناول قصة حياتها المأساوية أصحاب القضايا العادلة ليجعلوا منها بطلة .. التسامح والمساواة والحرية
بكل أبعادها الكونية·
الروائي المصري يوسف زيدان، لم يأت بجديد في روايته (عزازيل) التي استلهم أحداثها من قصة حياة
هيباشيا، سوى إعادة التذكير بمسرح الجريمة·· مدينة الإسكندرية·
التعصب الديني، على مرّ العصور، آفة مدمرة يستحيل أن تبلسم جراحها الدهور··· وهي تكرر ذاتها
باستمرار لكن باشكال أكثر ميلودرامية·
رواية (عزازيل) للكاتب المصري يوسف زيدان، التي استحق عليها جائزة (البوكر العربية)، جاءت في سياق موجة الرواية التاريخية التي عادت إلى الظهور بقوة في الساحة الثقافية العربية، بحيث بات الخوض فيها حلما يراود معظم الروائيين والكتاب العرب· على أن اختيار يوسف زيدان لموضوع روايته، وفي هذا الظرف بالذات ،تحيط به أشكال وألوان من التساؤلات حول الدوافع التي جعلته يبني على قصة حياة الفيلسوفة العالمة (هيبا شيا) وموتها المأساوي، غدرا واغتيالا على أيدي دعاة التعصب الديني، في وقت كانت فيه الفرق والملل المسيحية، تناضل بعنف لأجل تثبيت عقائدها في الوسط المتوسطي، الذي لم يكن قد ودع الوثنية بالكامل، وإن كانت الدلائل تشير إلى أن تغييرا جوهريا قد أذن بالقدوم، على المنطقة استجابة للغزو الروحي الجارف القادم من أعماق الشرق باتجاه الغرب ومنه، صوب كل الاتجاهات والأصقاع على وجه المعمورة· لم يأت زيدان بأية إضافة إلى موضوعه الرئيسي الذي قصد به فضح التعصب الديني المدمر، سوى أن محور القصة التي اختارها، قائم على تداعيات حياة امرأة، قاومت وتصدت للجهل والعنجهية والتدليس المشوب بالغيبية المتسلطة، متسلحة بالفلسفة والعلم، والأهم من ذلك، هو أن أحداث القصة تدور في مدينة الإسكندرية المصرية، العربية، المتوسطية، والتي ما زالت تشهد أشكالا من الصدامات الدامية بين المتعصبين والمتطرفين، والدعاة الإلهيين، حتى في أيامنا هذه· احتجاج الكنيسة القبطية، جاء على خلفية أن الرواية تعالج التعصب المسيحي دون سواه، كون أحداثها تدور في مطلع القرن الخامس، معتبرة مثل هذا الطرح، انحيازا لخصمها الحالي، أو يصب في خانته على أقل تقدير· على أن واقع الحال يفيد أن (عزازيل) البطل الخفي في عمل زيدان الروائي، هو ذاته إبليس في أدبيات الأديان الأخرى،ودوره ليس فيه انحياز لدين دون سواه ،ذلك لأن الشر لا دين ولا ملّة له. حواضر المتوسط، منارات العالم القديم وطليعة توجهاته الإنسانية صوب الخلاص المرتجى من دياجير الظلامية والجهالة إلى فضاءات العقل والفكر، كان لزاما عليها انتظار ألف عام ونيف من رحيل الشاعرة الكونية “سافو”، لكي تجود عليها أمنا الطبيعة بعبقرية فذة متجسدة في فيلسوفة عالمة، وكريمة حسناء في مقام “هيباشيا”· وإذا كان العصر الوثني التعددي المتنوع بفلسفاته المتخاصمة وآلهاته المتصارعة، وسياسات حكامه المتنافسة، قد عرف كيف يحفظ كرامات أهل العلم والذكر، ويصون رواد الخلق والإبداع، بحيث يحمي الآخر المختلف، ويدافع عن حقه في التعبير والحياة والمشاركة، فإن زمن الأحادية الذي فرض ظلاله على المنطقة ومنها على أصقاع العالم بأجمعه، ليدخله في ظلام عصر القرون الوسطى ، قد اتسم بالتطرف والعصبية والجهالة التي تعدم مجرد التفكير في حق الآخر المختلف، على صعيد فكره، أو معتقده، أو رأيه في شأن خاص يتعلق بمسائل الإيمان، أو موضوع عام يمس حياة المجتمع والناس· المآسي التي أفرزها العصر الإيماني الوسيط، أكثر من أن تعد، لكن عندما يتعلق الأمر بموضوع اغتيال العقل وتعطيل الفكر، فإن المأساة تأخذ منحى منزلقا أكثر خطورة وتهديدا لمصائر الإنسان ومستقبله على وجه الأرض، وعلى هذا، فإن السقوط الأخلاقي والحضاري الذي شهدته مدينة الإسكندرية في مطلع القرن الخامس، والذي أدى إلى جريمة اغتيال “هيباشيا” العظيمة، بالطريقة البشعة التي تمت بها، قد سجل بداية انحطاطها، وتحطيم سمعتها كمنارة للإبداع الحضاري السامي، وإن كان الراهب سقراط الذي كتب تاريخ الكنيسة في هذه الفترة، ختم حديثه عن وصف الجريمة بالقول “··· مجموعة من المؤمنين يقودهم بطرس الحكيم، وهو مؤمن مثالي بيسوع المسيح، أخذت على عاتقها مطاردة تلك المرأة الكافرة التي سحرت الشعب والمدينة والحكم بهرطقاتها وأذكارها· وما أن علموا بمكان تواجدها، حتى هرعوا إليها، فوجدوها جالسة بهدوء على كرسيها، فما كان منهم إلا أن جرجروها في الشارع، إلى أن وصلوا إلى كنيسة قيصرون الكبرى، هناك بادروا إلى تمزيق ثياب الكافرة، وراحوا يرجمونها بالحجارة حتى فارقت الحياة، ثم ربطوا جسدها خلف عربة وسحبوها جرا في شوارع المدينة، وبعد أن مزقوها إربا، أحرقوا أطرافها في احتفال مهيب··· وكان كل الجمهور محيطا بالأب المقدس كيرليوس، الذي أطلقوا عليه لقب (ثيوفيل)، ذلك لأنه بهذا العمل، قد حطم آخر بقايا الوثنية، بمدينة الإسكندرية····”· الباحث والروائي المصري يوسف زيدان، وهو يرسم المحاور الأساسية لعمله الأدبي الأخير، رواية “عزازيل” التي نال عليها جائزة البوكر العربي، لهذا العام، تناول جانبا من حياة “هيباشيا”، ليبني عليه موضوع روايته، خاصة تلك المتعلقة، بالرابط الذي كان يجمع الفيلسوفة العظيمة برجالات زمانها، وهي العذراء الجميلة التي رفضت الزواج، مفضلة تكريس كل لحظة من حياتها للعلم والفكر والبحث· كانت هيباشيا على علاقة جيدة بحاكم المدينة أوريستي، الوالي المعين من بيزنطة على رأس السلطة في الإسكندرية، والذي كان على خلاف حاد مع البابا كيرليوس، لأسباب سياسية وأخرى لاهوتية، بقدر ما يمكن أن نتخيل ما بين براغماتية السياسي وتطرف الديني في مثل هذه الحال··· على أن البابا وأتباعه وجدوا في الصداقة التي كانت تجمع بين الحاكم والفيلسوفة الوثنية، تهديدا خطيرا، وسببا رئيسيا في استفحال مشاكل الدين القويم مع مركز السلطة في بيزنطة وممثلها وواليها على الإسكندرية· كان سينيسيوس القوريني، الذي أصبح لاحقا، أسقفا بمدينة بطوليميس، أحد تلاميذ الفيلسوفة والعالمة العظيمة، وصديقها المقرب أيضا، لم يترك مناسبة دون أن يشيد بفضائلها، علمها، حكمتها، وجمالها، حتى أنه يذكر، أسطورة بقائها عذراء، وكان دائما يطلب إليها النصح والمشورة عند الحاجة، خاصة ما تعلق منها بالمشاريع العلمية التي كان يعمل على إنجازها، مثل: الاسطرلاب، ومقياس ضغط السوائل، وتدقيق الخرائط الجغرافية، وضبط المعلومات الفلكية·· كتب إليها يوما يقول: “من أجلك فقط يمكنني تناسي موطني، وإن حدث وهجرته، فلن يكون ذلك إلا لأجل أن أحظى بقربك···”، ثم يضيف بنبرة العاشق المستهام: “··· عندما لا يبقى للموتى في الجحيم أية ذكرى، فأنا سأذكرك، أذكر عزيزتي هيباشيا···”، وفي رسالة إلى والده، لم ينس الأسقف العاشق أن يذكر أستاذته وصديقته فيقول: “··· الفيلسوفة العزيزة عند الرب، والتي يصعب علينا إيفائها حق قدرها···”· المؤرخ الكنيسي سقراط نفسه، الذي لم يتوان عن التشفي فيها وهي قتيلة، عاد وذكرها بالقول: “··· كانت بالاسكندرية امرأة اسمها هيباشيا، هي ابنة الفيلسوف ثيون، وقد ارتقت درجة عالية من العلم والثقافة، بحيث بزّت في هذا المجال كبار الفلاسفة، وتبوّأت بذلك إدارة المدرسة الأفلاطونية، بعد أفلوطين، وكانت تتيح إمكانية تحصيل المعارف الفلسفية لكل من يطلبها، ولهذا كان كل من يرغب في الاشتغال بالفلسفة، من جميع الأنحاء، يلتمسون التقرب منها··· صراحتها واعتزازها بنفسها، فضلا عن ثقافتها الواسعة، كل ذلك أمكنها من المواجهة والتصدي وجها لوجه وبدم بارد، حتى الولاة أنفسهم. ولم تكن تخجل إطلاقا من تواجدها وسط الرجال، ذلك أن مقدراتها العالية، كانت حرّية بأن تجعلهم، هم من يشعر بالخجل والخوف في حضرتها، ناهيك عن مواجهتها··”· كان والد هيباشيا ثيون الاسكندري، هو آخر مدير لمتحف الإسكندرية ومكتبتها، فيلسوف وعالم رياضيات، أحسن تربية ابنته ودفعها للاقتداء به في تحصيل العلوم الرياضية والفلسفية، بما أهلها لأن ترتقي إلى منصب المسيرة لمدرسة الأفلاطونية الحديثة بالاسكندرية، وكانت قد تابعت دراستها المعمقة بمدينة أثينا، فعملت أيضا، على طرق مختلف مجالات العلوم، مثل: الفلك، والحساب، والهندسة، وكان لها نظريات وفرضيات مستحدثة في كل العلوم وفي الطروحات الفلسفية للمدرسة الأفلاطونية الحديثةة، وإن ضاعت رسائلها وكتبها بسبب الحريق الذي ضرب مكتبة الإسكندرية وأتى على كنوزها· لكن هيباشيا استمرت على مرّ العصور، أسطورة تروى وفيلسوفة عالمة تبجّل، ذكرها ديدرو بأحسن وصف في موسوعته، وتبارى الشعراء والكتاب في إبداع القصائد والقصص التي خلدت ذكرها، ولم يكن الكاتب الانجليزي تشارلز كينكسلي، لا أول ولا آخر من تطرق لمأساة حياتها، وإن فضلت الكنيسة القبطية الإشارة إلى الرواية التي نشرها تحت عنوان (هيباشيا) عام 1853، في محاولة منها للتشكيك في مصداقية الجهد الذي بذله الروائي يوسف زيدان، لإخراج عمله “عزازيل” إلى الوجود، والذي نال عليه جائزة البوكر للرواية العربية، على حد ما سبقت الإشارة إليه· لقد اكتشف المبدعون في حياة (هيباشيا)، كل أسباب الخوض فيها عبر أعمال خالدة، ومخلدة لها، فهي العالمة الموسوعية، والفيلسوفة القديرة، والمرأة القوية المحافظة على طهارتها وعذريتها، المتشبثة بمبادئها الراسخة، بما زادها جمالا على جمالها وأناقتها وفتنتها الرزينة، إلى جانب وقارها الممتزج بتواضعها المحبب إلى نفوس كل من عرفها من قريب أو بعيد··· حتى يومنا هذا!··· كانت أيام (هيباشيا) والعصر الذي عاشت فيه بمدينة الإسكندرية، تغلي عليانا، جراء التناحر السياسي والديني القائم، الأمر الذي تحوّل إلى ممارسة للعنف غير مسبوقة بهذه المدينة العريقة، إلى درجة اغتيال الفيلسوفة الوديعة بتلك الطريقة الوحشية، على أن هذا الفعل الهمجي زاد من حظوظ العالمة الإنسانة، في الخلود الأبدي، وتحولها إلى بطلة يدعيها كل طرف لنفسه، فمنذ البداية ومباشرة بعد اغتيالها تحولت (هيباشيا) إلى بطلة وثنية كونها تصدت حتى الموت للمسيحية، أو بطلة الانفتاح والتسامح باعتبارها ضحية الارثوذكسية والتطرف، أو بطلة المسيحيين في القسطنطينية لأن الذين اغتالوها، هم المسيحيون الخوارج في الإسكندرية، وفي العصور المتأخرة، اعتبرت (هيباشيا)، بطلة المنادين بإسقاط الأكليروس، لكونها ضحية المراتبية الاكليركية، بمثل ما هي بطلة البروتيستانتية وضحية الكنيسة الكاثوليكية، ثم أنها بطلة للنزعة الرومانسية باعتبارها ضحية ميل الغرب للتخلي عن ثقافته الإغريقية، إنها أيضا وأيضا، بطلة المواقف المتصدية، وضحية هيمنة الدين على العلم، وفي عصرنا الحديث تحولت (هيباشيا)، إلى بطلة الأنوثة والدفاع عن المرأة، وهي الضحية التي قضت عليها غطرسة الكنيسة، إلى آخر ما هنالك، من مواضيع وأحداث وتقلبات، تجعل من قصة حياة ونضال ومواقف الفيلسوفة، حالة رمزية لحركات النضال المشروع التي وجدت نفسها في هيباشيا الشهيدة..فاتخذتها رمزا لنضالها.