مراجعة رواية “مدينة الريح” لفاطمة ذياب

2017/10/18
Updated 2017/10/18 at 10:08 صباحًا


تقديم روز شوملي مصلح: منذ السطور الأولى للرواية، تعبّر الكاتبة عن غربتها واغترابها في المدينة التي تسكن فيها، وتقارنها بالمدينة التي تريد. منذ البداية نعرف أن فاطمة ذياب تبحث عن مدينة أخرى، مدينة فاضلة، يكون فيها الجميع متساوين في الحقوق والواجبات؛ فاطمة تريد مدينة تحبها؛ تزرعها في بؤبؤ العينين».، وتنزرع فيها بالمقابل. وفي بحثها عن المدينة الفاضلة، تبحث فاطمة ذياب عن ذاتها لتحقق انسانيتها وكينونتها. وتقول في ذلك: «أحاول أن أرسم صورة لمدينة أخرى في ذاكرتي، أحاول أن أتذكر ملامحها. أحاول أن أراها بعين عذراء تماماً كما كانت أيام كنت ومدينتي أقرب من حبل الوريد».
تتشكل الرواية في طبعتها الثالثة من مدخل و 22 فصلاً. أما المدخل فهو كلمة وفاء وامتنان. ومن أول فصل حتى آخر فصل، نجدنا مشدودين للرواية. وما يشدنا فيها هذا القلق الذي تعاني منه بطلة الرواية، وهذا الرفض لمدينة يسودها الخراب كما لو أنها المدينة التي تحدث عنها ت. س. اليوت، أو توفيق صايغ في مقدمته لمجموعة جبرا القصصية «عرق وبدايات من حرف الياء». لا أدري إن كانت الكاتبة قد قرأت عن مدينة اليباب، وإن لم تقرأ، فقد اكتشفت في المدينة، كما تشير الرواية، إلى انحدار في القيم، وتدهور في المعايير، وتشويه لما هو جميل. ومن خلال الرواية، نكتشف أن للاحتلال دوراً في هذا التشويه.
منذ الفصل الأول للرواية، نتعرف على الشخصية الأساسية في الرواية، فهي امرأة في الستينات من العمر، وهي ابنة المختار، رغم ذلك، تشعر بالاغتراب في مدينتها التي بدأ ينبش فيها الخراب، المحكومة بعادات وتقاليد تشدها للخلف. تبحث عن نفسها وعن مدينة أخرى، لا يوجد فيها سيد ومسود، مدينة تسمع صرختها، مدينة تزرعها في بؤبؤ العينين وتحبها هي في المقابل. وبطلة الرواية وساردتها هي ابنة المختار، السيد، الذي له السلطة المطلقة، تماماً كصورة السيد في ثلاثية نجيب محفوظ… سيد كل شيء. سيد بيته وعشيرته ومدينته. وهو الذي يقرر كل شيء بما فيه الكتاب الذي تقرؤه ابنته. ومن تحكم السيد الأول تبدأ الحكاية، ومن التمييز بين الولد والبنت تسير الحكاية، وهذا ينطبق على كل بيت في مدينة الكاتبة.
المتنفس الوحيد الذي أعطاها هامش حرية هو الكتابة. في الكتابة خلاصها.
والسيد ليس فقط رب المنزل، فهناك سيد آخر هو رب العمل. كلاهما يتحكمان بالمرأة في فضاء البيت وفي مجال العمل. وفي الحالتين مطلوب من المرأة أن تقدم الولاء والطاعة. لكن بطلة الرواية انسانة تعي ذاتها، كما أنها صحافية وكاتبة، ولها شخصيتها المستقلة، ولفترة عملها في الصحافة، كانت تسكن في مدينة أخرى غير مدينتها، وهذا ما أعطاها نوعا من الحرية. وضمن عملها في الجريدة، زاد احساسها بمعاناة النساء. لذلك نجد الكاتبة تفتح ملفات الميراث، والاغتصاب، وتعدد الزوجات، والطلاق، لأنها تؤمن بأن للمرأة حقاً في حياة كريمة.
ومن الطبيعي أن تدخلها هذه الموضوعات في تناقض مع السيدين (رب البيت ورب العمل)، كما تدخلها في تناقض مع العادات والتقاليد السائدة. وفي حديث لها مع زميلها في العمل وصديقها تقول: «»كانت غاية أحلامي أن أحتل ولو ربع مقعد في قصر السيد. ولم أكن أعرف يومها أنني كي أُقبل قطروزه (خادمة) في هذا القصر عليّ أن أفعل ثلاثة، أن أرى بعين السيد، أن أسمع بأذنيه، أن أتكلم بلسانه.»
وأحياناً يتم تغيير التقاليد والعادات لتكون في مصلحة السيد، أو لمصلحة الرجل على حساب المرأة. وكمثال على ذلك مسألة الميراث. فقد كانت المرأة تأخذ حصتها من الميراث مثلها مثل الرجل، لكن بعد النكبة، «جاء اليهود واحتلوا البلاد وشلحوا العباد أراضيهم، اتفق الرجال أن يورثوا الذكور كي يحفظوا الأملاك داخل العائلة» . لذلك يمكن القول بأن «البنت هي الضحية الأولى للاحتلال والمجتمع» . كما كان شائعاً في تلك الفترة تعدد الزوجات حيث كان الرجل يتزوج أكثر من امرأة طمعاً في المال والأرض.
ومنذ البداية نكتشف أن الرواية لها حكايتان: حكاية المرأة وحكاية المدينة. يتقاطعان ويفترقان. فالرواية مكتوبة بحس نسوي واضح. تبيّن فيه وضع المرأة في المدينة اليباب. المرأة التي تعيش مع وحدتها، في مجتمع لا يرحم.
الرواية تتكشف عبر المونولوج الداخلي الذي يعطي بعداً سيكولوجياً للنص، وشخصية دبدوبة تمثل الجانب الفطري العفوي لبطلة الرواية، نراها تطلّ من وقت لآخر لتقول ما تتحفظ الكاتبة عن قوله صراحة. دبدوبة تمثّل «الهو» بحسب التحليل الفرويدي، طفولية من جهة، ومتطرفة من جهة أخرى.
وما يجعل الرواية مشوقة، هو الأسلوب الذي استخدمته الكاتبة للرواية. فهي من جهة، تستخدم المونولوغ للتعبير عن ذاتها، ومن جهة أخرى، تستخدم الرسائل في مخاطبة صديقها في العمل، ولمخاطبة المرأة بشكل عام في مقدمة رسائلها التي تبدأها بـ «أيتها الأنثى»؛ وهنا، نراها تخاطب جميع النساء بدءاً من نفسها. تقول: «أيتها الأنثى المائية الابتهالات والكلمات، من ضجيج عنادك وأريج تواضعك… وسكرة مفرداتك، أحاول أن التقيَك في رسالة فوق طاولة ريح المدينة.
كما تستخدم الكاتبة اللهجة العامية حينما تتحدث الجدة عن النكبة، وما عرفته ورأته وهذا يعطي النص مصداقية عالية.
وتتميز الرواية بالتناص الذي يتكرر في كل الفصول. فتستخدم الكاتبة أمثلة شعبية أو مقاطع شعرية لآخرين تضمنها نصها دون أن يشعر القارئ بافتعال أو تكلف في النص. وعلى سبيل المثال، تقول لزميلها في العمل: «أنا أعرف وأنت تعرف أننا هنا في حقل السيد الجديد والمقاول الجديد (نحرث وندرس لبطرس) من أجل لقمة عيش لا أكثر ولا أقل». وهذا التناص يتكرر بشكل لافت في النص الروائي.
وتتفاعل الكاتبة مع الوضع في العراق متأثرة بما حدث لأطفال العراق في زمن الرئيس الأميركي بوش، فتكتب رسالة لزميلها بمرارة: «صوت أطرافه المبتورة ما زالت تصرخ… انتزعني من أمام الشاشة الصغيرة المحنطة…يا ناس أعيدوني لطفل عراقي يبحث عن أطرافه لينهض ليأكل، ليشرب، ليعيش مثل خلق الله».
وفي مكان آخر تستخدم التناص: «خذوا ما شئتم من أوراق التين والتوت لتستروا عوراتكم ان استطعتم. نحن هنا كما الأرض منزرعون في يومنا وأمسنا في شمسنا وظلنا وأقدارنا نكتب التاريخ وندونه كما تعلمنا «دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة». وتستمر الكاتبة في التعبير عما يعتلج في صدرها من قهر وشعور بالظلم وتنهي كلامها بمقتطف «ولا بد أن يستجيب القدر» من قصيدة «إذا الشعب يوما أراد الحياة». وهنا تعني فلسطين والعراق.
ويتميز نص فاطمة الروائي بالسخرية والدعابة. وهذا ما يجعل النص خفيفاً للقراءة، لكنه عميق من حيث معانية المخفية والمتوارية خلف الكلمات. وفي كثير من الأحيان، تتضمن المواقف سخرية مرّة من قبل الكاتبة، إما بسبب انتهاك هذه المواقف لكرامة المرأة، أو بسبب سطحيتها التي ترد عليها بسخرية مرّة. وكثير من هذه المواقف تأتي ضمن الموروث الاجتماعي الذي يعتبر، لدى المجتمع مقدساً ولا يجوز تغييره.
وعن المدينة تقول الكاتبة: «مليون وجع أحمله داخلي وعلى كتفي من مدينتي التي فقدت بكارتها في ليل اغتصاب…وظللت من محاولة إلى محاولة أعالج قسوة المدينة التي أحبها وأبحث عنها» . وفي مكان آخر تقول: «أنا في رحلة بحث عني وعن فكرة تخصني وتحضنني، تلمني كي تجمعني انسانة أخرى في مدينة أخرى، في زمن آخر».
تتميز الرواية بنثر جميل، بتداعيات ومونولوجات، بصور شعرية تجعل القارئ يحلق في عالم الرواية الشعري. فكأننا أمام لوحات جميلة ترسمها بخفة الشعر وعبقه. وبصورها، وألوانها وحسّيتها. ولا تخلو صفحة من هذه الصور الشعرية التي تشد القارئ للوصول إلى الخاتمة.
الايام

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً