تقرير مجلس الاستخبارات القومي الأميركي 2012 “الاتجاهات العالمية 2030: عوالم بديلة” (الحلقة الحادية عشرة)

2013/03/03
Updated 2013/03/03 at 1:31 مساءً

192105
يقصد هذا التقرير إلى تحريض التفكير في هذه الطائفة المتنوعة والمتسارعة من التغييرات الجيو-سياسية والاقتصادية والتقنية التي تقوم بتحويل عالمنا اليوم، وإلى تأمل تجلياتها المستقبلية خلال السنوات الخمس عشرة إلى العشرين التالية.
(بدأ) هذا التقرير بتحديد ما نرى أنه الاتجاهات الكبرى الأكثر أهمية في عالمنا المتغير –تمكين الفرد؛ توزُّع القوة العالمية إلى شبكات متعددة الوجوه وانسيابها إلى الشرق والجنوب؛ والأنماط الديمغرافية التي ستكون أبرزها شيخوخة السكان وحدوث انفجار في أعداد المنتمين إلى الطبقات الوسطى؛ والتحديات التي تشكلها الموارد الطبيعية. وهذه الاتجاهات الكبرى تمكن معرفتها، وهي تشير في حد ذاتها إلى عالم متغيّر، لكن العالم يمكن أن يُحوّل نفسه بطرق مختلفة جذرياً. وباختصار: إننا نتجه إلى مياه لا يمكن سبر أغوارها.
ونعتقد بأن هذه الاتجاهات الكبرى تتفاعل مع ستة متغيرات، أو “مغيرات للعبة” (1) والتي سوف تحدد أي نوع من العالم المختلف سنَعمُر في العام 2030. وفيما يلي، سنجري حفرية في مغيرات اللعبة الستة الرئيسة وتأثيراتها المحتملة:
• اقتصاد عالمي عرضة للأزمات: هل ستفضي الاختلافات بين اللاعبين ذوي المصالح الاقتصادية المختلفة والتقلبات العالمية إلى توقف اقتصادي عالمي شامل وانهيار؟ أم أن تطوير مراكز تنمية متعددة سيفضي إلى زيادة مرونة النظام الاقتصادي العالمي؟
• فجوة الحكم: هل ستكون الحكومات والمؤسسات الدولية الحالية قادرة على التكيف بسرعة كافية لتسخير التغيير واحتوائه بدلاً من أن يطغى هو عليها؟
• احتمال تصاعد الصراعات: هل ستفضي التغيرات المتسارعة والتحولات في مراكز القوة إلى خلق المزيد من الصراعات بين الدول وفي داخلها؟
• توسع نطاق عدم الاستقرار الإقليمي: هل سيعمل الجيَشان الإقليمي، خاصة في الشرق الأوسط وشرق وجنوب آسيا، على التسبب بحالة عدم استقرار عالمي؟
• تأثير التقنيات الجديدة: هل سيتم إحداث اختراقات تكنولوجية في الوقت المناسب لإعطاء دفعة للإنتاجية الاقتصادية وحل المشكلات الناجمة عن الضغط على المصادر الطبيعية والتغير المناخي، بالإضافة إلى الأمراض المزمنة، وشيخوخة السكان، والتمدن السريع؟
• دور الولايات المتحدة: هل ستتمكن الولايات المتحدة من العمل مع شركاء جدد على إعادة ترتيب النظام الدولي، مجترحة أدواراً جديدة في نظام عالمي متوسع؟

مغير اللعبة السادس:
دور الولايات المتحدة
سوف تكون الكيفية التي تتطور بها الولايات المتحدة على مدى السنوات الخمس عشرة القادمة –وهو موضوع كبير لعدم اليقين- من بين أهم المتغيرات التي ستحدد الشكل المستقبلي للنظام الدولي. ولا شك أن تراجع الولايات المتحدة الاقتصادي النسبي في مقابل الدول الناهضة هو أمر لا مفر منه –بل ويحدث بالفعل، لكن دورها المستقبلي في النظام الدولي يظل أمراً أصعب كثيراً على التقدير. وتبقى مدى قوة الولايات المتحدة في النظام مهمة في المدى القصير بسبب الحاجة إلى سلعها العامة شاملة، والأمن بخاصة، وكذلك على المدى البعيد حتى العام 2030 بسبب تزايد الشكوك المرتبطة بالتغيرات الجيوسياسية المطردة. لن يكون الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب كاملاً، حتى في العام 2030؛ وسيظل شكل العالم في ذلك الحين أبعد ما يكون عن إمكانية تحديده سلفاً في نهاية المطاف.
سوف يكون وجود ولايات متحدة متعافية اقتصادياً “ميزة إضافية” عندما يتعلق الأمر بقدرة النظام الدولي على التعامل مع التحديات العالمية الرئيسية خلال هذه الفترة الانتقالية الطويلة. ومع ذلك، فإن ولايات متحدة قوية ومتعافية لن تكون قادرة وحدها على ضمان حل ومعالجة التحديات العالمية المتنامية -خصوصاً في هذا العالم المتسم بالتوزُّع والانتشار السريع للقوة. ومن ناحية أخرى، فإن وجود ولايات متحدة ضعيفة وعلى الجانب الدفاعي، سيجعل من الأصعب بكثير على النظام الدولي التعامل مع التحديات العالمية الرئيسية.
دور ثابت للولايات المتحدة
كان دور الولايات المتحدة المهيمن في السياسة الدولية مستمداً من أفضليتها ورجحان وزنها عبر كامل الطيف، في معظم أبعاد القوة “الصلبة” و”الناعمة” على حد سواء. وقد تراجع وزن الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي بشكل مطرد منذ ستينيات القرن العشرين، لكنه شرع في الهبوط بمزيد من السرعة منذ بواكير العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع صعود مكانة الصين في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، ما تزال الولايات المتحدة واحدة من بين أكثر دول العالم انفتاحاً، وإبداعاً، ومرونة. وعلى الرغم من كونها موطناً لأقل من 5 % من سكان العالم، كانت الولايات المتحدة مسؤولة عن إنتاج 28 % من طلبات براءات الاختراع العالمية في العام 2008، وهي موطن لنحو 40 % من أفضل الجامعات في العالم. وتظل الاتجاهات الديمغرافية للولايات المتحدة مواتية وإيجابية مقارنة بدول متقدمة أخرى وبعض الدول النامية أيضاً. كما تستمد الولايات المتحدة قوتها أيضاً من تدفقات المهاجرين العالية، وقدرة الولايات المتحدة غير العادية على دمج المهاجرين.
سوف تستفيد الصناعة الأميركية أيضاً من زيادة الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي، وهو ما سيخفض تكاليف الطاقة اللازمة لتشغيل الكثير من الصناعات التحويلية. ومع مرور الوقت، يمكن أن تؤدي زيادة إنتاج الطاقة المحلية إلى تقليص العجز التجاري للولايات المتحدة، لأنها ستكون قادرة على خفض واردات الطاقة، وربما تكون قادرة على تصدير الغاز الطبيعي والنفط. ويمكن لزيادة إنتاج الطاقة المحلية أن يعزز إمكانات الاستخدام والتوظيف في الوطن.
نظام جديد في طور التشكُّل
تواجه الولايات المتحدة تحديات اقتصادية قاسية –لم يكن من الممكن التنبؤ بها بوضوح قبل الأزمة المالية للعام 2008- والتي ستتطلب إجراء إصلاحات هيكلية ذات قاعدة عريضة إذا كانت أميركا لتتجنب حدوث انخفاض سريع في موقفها الاقتصادي. فالرعاية الصحية مكلفة وغير فعالة: حيث الإنفاق العام والخاص للفرد الواحد في هذا المجال 50 % أعلى من ثاني أعلى بلد في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD. وفيما تذهب أعمار السكان إلى الشيخوخة، يُتوقع أن ترتفع هذه التكاليف بشكل سريع. والتعليم الثانوي ضعيف، مع احتلال الطلاب الأميركيين في عمر 15 عاماً المرتبة 31 من أصل 65 دولة في الرياضيات، والمرتبة 22 في العلوم، وفق استطلاع ضمّ العديد من البلدان النامية. وقد هبطت الميزة التعليمية للولايات المتحدة نسبة إلى بقية العالم إلى النصف في السنوات الثلاثين الماضية. ومن دون إدخال تحسينات واسعة النطاق في التعليم الابتدائي والثانوي، فإن العمالة المستقبلية في الولايات المتحدة -التي استفادت من أعلى معدلات الأجور في العالم- سوف تجلب باطراد مهارات دون المتوسط فقط إلى مكان العمل.
أصبح توزيع الدخل في الولايات المتحدة أكثر افتقاراً للمساواة إلى حد كبير مما هو في البلدان المتقدمة الأخرى، وهو يصبح أكثر لا مساواتية من ذلك. وعلى الرغم من أن دخول أعلى 1 % من الأميركيين ارتفعت، فقد انخفض متوسط دخل الأسر منذ العام 1999. كما أن المرونة الاجتماعية أقل، ومعدلات الفقر النسبي أعلى في الولايات المتحدة مما هي عليه في معظم الدول المتقدمة الأخرى. وعلى الرغم من الإنتاجية والقدرة التنافسية العالية، بلغ العجز التراكمي في الحساب الجاري للولايات المتحدة خلال السنوات الثلاثين الماضية 8.5 تريليون دولار، وهو ما يعكس المعدل المنخفض للغاية في مدخرات الأسر والعجوزات الحكومية.
لقد تغير السياق العالمي الذي كانت القوة العالمية للولايات المتحدة تعمل فيه بشكل كبير: ولا يتعلق الأمر فقط بهبوط الولايات المتحدة الاقتصادي النسبي، وإنما يتعلق أيضاً بالهبوط الموازي والمصاحب في الغرب –حلفاء واشنطن التاريخيين. وقد عانت معظم الدول الغربية الأخرى من تراجعات قياسية أيضاً، في حين أخذت الدول النامية بتمثيل حصة أكبر من الاقتصاد العالمي. وقد تميزت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بمجموعة البلدان السبعة الكبار G-7 –التي كانت تتشكل من حلفاء وشركاء اقتصاديين-وتولت القيادة العالمية سياسياً واقتصادياً على حد سواء. وكان استعراض الولايات المتحدة للقوة يعتمد على، ويتم تضخيمه، بواقع تحالفاتها القوية مع الشركاء الغربيين، هذه التحالفات التي تم عقدها خلال فترة الصراع الكثيف مع الفاشية ثم الشيوعية. وعلى سبيل المثال، زودت أوروبا واشنطن، تاريخياً، من خلال حلف شمال الأطلسي NATO، بالعديد من شركائها في الائتلاف الرئيسي. وحتى قبل العام 2008، كانت الضغوط على القدرات الأمنية الأوروبية واضحة، وكانت أوروبا قد بدأت فعلاً باعتماد التقشف وإجراء تخفيضات كبيرة في النفقات الدفاعية.
باستشراف المستقبل، وبغض النظر عن مختلف السيناريوهات الواقعية التي يمكن للمرء تصورها للنمو الاقتصادي، وعلى الرغم من أن العلاقات القوية عبر المحيط الأطلسي ستظل رصيداً مهماً للولايات المتحدة، فإن مجموعة السبعة الكبار بأكملها ستمثل حصة متناقصة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وفي عالم اقتصادي متفاوت السرعات، والذي يستمر فيه الغرب باختبار ضغوط مالية شديدة –وهو التطور الأكثر احتمالاً في المستقبل المنظور- سوف يتزايد الاتجاه نحو حصة تصبح غير متناسبة باطراد من الإنفاق العسكري للسبعة الكبار. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ستبقى قوة عسكرية رائدة في العام 2030، فإن الفجوة بينها وبين الآخرين ستتلاشى، كما ستقل إمكانية اعتمادها على شراكاتها التاريخية مع حلفائها أكثر وأكثر.
تظل قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بشيء قريب من المستويات الحالية للإنفاق الدفاعي مسألة مفتوحة على سؤال جدي. فقد ظل اتجاه نفقات الدفاع الوطني -كنسبة من الاقتصاد الأميركي- يتخذ اتجاهاً انحدارياً منذ عدة عقود. وكانت الولايات المتحدة قد خصصت في المتوسط حصة 7 % من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع الوطني خلال الحرب الباردة، لتنخفض النسبة إلى أقل من 5 % على مدى العقد الماضي، بما في ذلك الإنفاق على الحرب في العراق وأفغانستان. ومع ذلك، نما الانفاق على برامج متعلقة بالاستحقاقات الرئيسية -خاصة الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، والمساعدة الطبية للفقراء- بسرعة خلال العقود القليلة الماضية. ونتيجة لذلك، أصبح من الصعب عكس الاتجاه التاريخي أو زيادة الحصة الدفاعية في المستقبل في حال عدم وجود حالة طوارئ كبرى. ومع ازدياد أعداد السكان المسنين واحتمال ارتفاع أسعار الفائدة في المستقبل، فإن تكاليف الاستحقاقات الاجتماعية المتصاعدة ستستهلك نسبة متزايدة من الميزانية الاتحادية في حال عدم إجراء إصلاح رئيسي للبرامج، أو عدم زيادة العوائد الضريبية بشكل استثنائي.
وثمة، في المجالات الرئيسية الأخرى، نمط مماثل من تضيُّق الفجوة بين الولايات المتحدة ومنافسيها، وكذلك بين الغرب و”البقية”. وستكون لهذا النمط آثار وتداعيات على دور الولايات المتحدة وقوتها في عالم العام 2030. سوف تظل الولايات المتحدة قائدة العالم في مجالات الأبحاث والتطوير في العام 2030، لكن الفجوة مع الصين والهند وآخرين ستكون قد انكمشت. وفي حين تستمر الولايات المتحدة في امتلاك أكبر مجموعة من أعلى الجامعات مرتبة في العالم، فإن عدد مثل هذه الجامعات يزداد في آسيا وتتقلص حصة أوروبا منها.
وفق أي سيناريو، سيكون على الولايات المتحدة أن تتعامل أيضاً مع التزايد في انتشار وتوزُّع القوة، وهو ما قد يجعل من المستحيل على أي قوة تقريباً -كما ذكرنا في الفصل الأول حول القضايا اليقينية النسبية- أن تتصرف بطريقة تسلطية وعلى قاعدة الهيمنة. لقد أصبحت القوة أكثر تعدداً في الأوجه –بما يعكس تنوع القضايا، وأكثر اتصالاً بالسياق –حيث يكون لاعبون معينون وأدوات قوة معينة وثيقي الصلة بقضايا مخصوصة. وثمة ميزة تكسبها الولايات المتحدة من الأصول المتوفرة لديها –بما في ذلك ريادتها في مجال الشبكات الاجتماعية والاتصالات السريعة- لكن شبكة الإنترنت عززت أكثر قوة الفاعلين من غير الدول، وكانت عاملاً رئيسياً في توزُّع وانتشار القوة. وفي معظم الحالات، سوف تحتاج قوة الولايات المتحدة إلى التعزيز من خلال صلات خارج الشبكات، والأصدقاء، والجهات التابعة التي يمكن جمعها في أي قضية مخصوصة. وكما ذكرنا في مكان سابق، سوف تصبح القيادة باطراد وظيفة للمكانة، والاصطياد على الشبكة، والمهارة الدبلوماسية، والسلوك البناء.
سيناريوهات محتملة متعددة
لدور الولايات المتحدة العالمي
يمكن أن تتباين الدرجة التي تواصل بها الولايات المتحدة الهيمنة على النظام الدولي على نطاق واسع. فتاريخياً، لعبت العديد من القوى المماثلة دوراً مهيمناً لفترة طويلة بعد أن تراجع وزنها الاقتصادي، أو حتى العسكري، بالنسبة إلى الآخرين. ومع أن الاقتصاد الأميركي كان قد تجاوز اقتصاد بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر، فقد احتلت الولايات المتحدة دورها العالمي، فقط خلال فترة الحرب العالمية الثانية. وينطوي إرث قوة الولايات المتحدة –باعتبارها مهندساً معمارياً رئيسياً لنظام فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية- على احتمال أن يكون له ذيل طويل.
وفق سيناريو متفائل، ستتمكن الولايات المتحدة من معالجة نقاط ضعفها الهيكلية، بما في ذلك انخفاض مستويات ومعايير التعليم، وتكاليف الرعاية الصحية المحلقة، وتوسع العجز المالي. وفي الوقت نفسه، وفي خارج الولايات المتحدة، سوف تبقى منطقة اليورو سليمة متماسكة، وبما يقضي على واحد من التهديدات الرئيسية لتعافي الولايات المتحدة على المدى القصير إلى المتوسط. ويمكن لاستمرار الازدهار في بلدان الأسواق الناشئة، حيث سيتم إضافة ما يقرب من مليار شخص إلى الطبقة الوسطى العالمية بحلول العام 2030، أن يلعب لصالح القوة الاقتصادية الأميركية أيضاً. فسوف يخلق هؤلاء المستهلكون الممكَّنون حديثاً طلباً على التعليم، والترفيه، والمنتجات والخدمات المدفوعة بتكنولوجيا المعلومات –وهي كلها سلع تتفوق الولايات المتحدة وتمتاز في إنتاجها. وعلاوة على ذلك، وباعتبارها رائد التكنولوجيا العالمية، يمكن أن تجد الولايات الولايات المتحدة لنفسها محركاً في الابتكارات التي يتم إنجازها في مجالات الطب والتكنولوجيا الحيوية والاتصالات والمواصلات، أو الطاقة. وعلى سبيل المثال، سوف توفر التطورات التي تقوم بتحسين كفاءة أو استخراج الغاز الطبيعي والنفط من الصخر الزيتي –التي تمتلك الولايات المتحدة احتياطيات كبيرة منها- فوائد استثنائية للولايات المتحدة.
وفق هذا السيناريو المتفائل، نتوقع أن ينمو الاقتصاد الأميركي باطراد بمعدل يدور حول 2.7 % سنوياً، مقارنة بمعدل 2.5 % خلال السنوات العشرين الماضية. وسوف يعكس النمو في الولايات المتحدة نمواً صلباً في قوة العمل وفي التقدم التكنولوجي على حد سواء. وسيرتفع متوسط مستويات المعيشة بنسبة 40 % وفق هذا السيناريو المحتمل- وبما يولد المزيد من المرونة الاجتماعية. وعلى الرغم من أن الحجم النسبي للاقتصاد الأميركي ربما سينخفض مع ذلك -من حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة العشرين الكبار في العام 2010 إلى نحو ربع هذا الناتج في العام 2030 بالدولارات الأميركية الحقيقية –فإن الاقتصاد الأميركي سوف يبقى الأكبر في العالم فيما يخص معدلات تبادل السوق. أما من حيث تعادل القوة الشرائية، مع ذلك، فإن الصين ربما تتجاوز الاقتصاد الأميركي قبل العام 2030. كما ستظل التجارة تتحول أيضاً إلى الشرق: سوف ينخفض نصيب الولايات المتحدة من التجارة العالمية من حوالي 12 إلى 10 %، في حين تتضاعف حصة شرق آسيا من 10 إلى 20 %. وعلى الرغم من أن معدل نموها سيتباطأ بشكل حاد بحلول العام 2030، فإنه سيظل من الممكن أن تصبح الصين اللاعب المركزي في التجارة العالمية، وأكبر شريك تجاري لمعظم البلدان.
لكن صورة مختلفة تماماً ربما تظهر –سواء للولايات المتحدة أو للنظام الدولي- في حال لم يتمكن الاقتصاد الأميركي من الانتعاش، وفي حال تباطأ نمو الولايات المتحدة إلى هابطاً إلى 1.5 % سنوياً خلال الفترة حتى العام 2030. ستعمل تجارة دولية وترتيبات مالية أضعف، فضلاً عن الآثار غير المباشرة للأزمات الداخلية في الولايات المتحدة، على تبطيء النمو في بلدان أخرى بنسبة تعادل 0.5 % سنوياً. وسوف يفضي حدوث نمو أبطاً إلى خفض مستويات المعيشة في الولايات المتحدة. وإذا ما أصبح يُنظر إليها على أنها دولة في حالة انحدار مُطلق وأكيد، فإن هذا التصور في حد ذاته سيجعل من الأصعب على الولايات المتحدة أن تتولى القيادة.
مخاطر كبيرة على النظام الدولي
سوف يعزز تحقق السيناريو المتفائل الذي يتصور عودة انتعاش الاقتصاد الأميركي من احتمالات معالجة التحديات العالمية والإقليمية المتزايدة. وسيكون من شأن اقتصاد أميركي أقوى معتمد على الاتجار بالخدمات والتقنيات المتطورة أن يقدم دفعة للاقتصاد العالمي، وأن يرسي الأسس لتعاون متعدد الأطراف أكثر قوة. وستكون لواشنطن مصلحة واهتمام أقوى في هيكل التجارة العالمية، ما قد يؤدي إلى عملية إصلاح لمنظمة التجارة العالمية، والتي تقود وتنظم مفاوضات جديدة وتقوي القواعد التي تحكم النظام التجاري الدولي. وستكون الولايات المتحدة في وضع أفضل لتقديم الدعم لشرق أوسط أكثر ديمقراطية ولوقف انزلاق الدول الفاشلة. ويمكن للولايات المتحدة أن تعمل كموازن لضمان الاستقرار الإقليمي، على سبيل المثال، في آسيا حيث يمكن لصعود قوى متعددة -خصوصاً الهند والصين- أن يشعل فتيل خصومات متزايدة. ومع ذلك، فإن ولايات متحدة متعافية لن تكون بالضرورة دواء لكل داء. سوف تتأثر مسائل الإرهاب، والانتشار النووي، والصراعات الإقليمية، والتهديدات المستمرة الأخرى للنظام الدولي، بحضور أو غياب قيادة أميركية قوية، لكنها ستتحرك أياً بدفع دينامياتها الخاصة.
لكن تأثير الولايات المتحدة سيكون أكثر وضوحاً بكثير في حال تحققت الحالة السلبية –حيث تفشل الولايات المتحدة في الانتعاش والتعافي، وتستمر في اختبار حالة تدهور اقتصادي حاد. وفي هذا السيناريو، سوف ينشأ فراغ كبير وخطير في القوة العالمية في غضون فترة قصيرة نسبياً من الزمن. ومع ولايات متحدة ضعيفة، سوف يزيد احتمال انهيار الاقتصاد الأوروبي. وربما سيبقى الاتحاد الأوروبي قائماً، وإنما سيصبح مثل صدفة فارغة تلف قارة مجزأة. وربما سيعاني التقدم في إصلاح التجارة أيضاً، وكذلك إصلاح النظم المالية والنقدية على الأرجح. سوف يضطر مجتمع دولي أضعف وأقل أمناً إلى خفض جهوده للمساعدة والإغاثة، تاركاً للدول الفقيرة أو التي تعاني من أزمات أمر الدفاع عن نفسها بنفسها، مما يضاعف فرص المظالم ونشوب الصراعات في مناطق الأطراف. وفي هذا السيناريو، سوف تكون الولايات المتحدة أكثر عرضة لفقدان النفوذ لصالح القوى الإقليمية المهيمنة -الصين والهند في آسيا، وروسيا في أوراسيا. وسوف يكون الشرق الأوسط عرضة للعواصف والتمزق بسبب التنافس والخصومات التي يمكن أن تتحول إلى صراع مفتوح، وبما قد يسبب اهتزازات وصدمات في أسعار النفط. وسيكون ذلك بمثابة تذكير للعالم بأعوام الثلاثينيات عندما كانت بريطانيا تفقد قبضتها على دورها القيادي العالمي.
الأحداث ستحدد طبيعة
دور أميركا المستقبلي أيضاً
سوف يتحدد موقف الولايات المتحدة في العالم أيضاً بمدى نجاحها في المساعدة على إدارة الأزمات الدولية –وهو عادة دور القوى العظمى، والذي توقعه المجتمع الدولي من واشنطن منذ العام 1945.
في حال كررت آسيا ماضي أوروبا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأصبحت منطقة مقسومة بالصراعات على السلطة والخصومات، سوف يدعو الكثيرون الولايات المتحدة -ربما حتى الصين الصاعدة- لكي تكون عاملاً موازناً يضمن الاستقرار في المنطقة. وسوف تريد جميع البلدان، وستحتاج إلى الاستقرار لضمان استمرار تنميتها الداخلية. وربما تقود الأزمات المحتملة التي يمكن أن تنشأ في الإطار الزمني حتى العام 2030 -مثل توحيد الكوريتين أو حدوث مواجهة متوترة بين الولايات المتحدة والصين بسبب تايوان، إلى صعود مطالب بانخراط مستدام وعالي المستوى للولايات المتحدة. وتنطوي منطقة آسيا على وجود عدد كبير من النزاعات الإقليمية غير المحلولة، بما في ذلك النزاعات القائمة في بحر الصين الجنوبي حيث المطالبات المتصارعة مرشحة للتصاعد مع تزايد الاهتمام باستغلال موارد قاع البحار القيمة.
وقد تتطلب مناطق أخرى وجود قيادة أميركية كثيفة أيضاً: ففي الشرق الأوسط وجنوب آسيا، تتصاعد المنافسات واحتمالات النزاع بين الدول وفي داخلها على حد سواء. ويمكن للمرء أن يتصور بسهولة صعود نداءات واسعة النطاق للمطالبة بقيادة أميركية قوية من أجل درء نشوب صراع هندي-باكستاني مفتوح، أو لنزع فتيل سباق تسلح نووي محتمل في الشرق الأوسط. كما أن الأزمات الإنسانية -ولا سيما تلك التي تحتاج إلى روافع الولايات المتحدة وقدراتها الاستخباراتية- سوف تساعد أيضاً في ضمان استمرار زعامة الولايات المتحدة. وكما وصفنا في وقت سابق، فإن من المرجح أن تكون الكوارث العالمية أكثر تواتراً وشدة؛ وكنتيجة لذلك، يرجح أن يكون هناك طلب أكبر على الأصول العسكرية للولايات المتحدة. ومن المرجح أيضاً أن يكون توفير الحلول التكنولوجية لمشكلة الندرة المتنامية في الموارد، وفي بعض الحالات قيادة الترتيبات الدبلوماسية لتحسين تقاسم الموارد المتاحة مثل المياه، بمثابة اختبارات للقيادة الأميركية. وربما سيؤثر نجاح أو فشل الولايات المتحدة في إدارة هذه الأزمات بشكل مباشر على طبيعة قبول المجتمع الدولي للقوة الأميركية.
كانت هيمنة الولايات المتحدة مدعومة، تاريخياً، بدور الدولار بوصفه عملة الاحتياطات العالمية. وسيكون سقوط الدولار كعملة احتياطية عالمية واستبداله بعملة أخرى أو بسلة من العملات واحداً من أكبر المؤشرات على فقدان الولايات المتحدة لمكانتها الاقتصادية العالمية، وعلى نحو يناظر زوال الجنيه الأسترليني كعملة العالم، وهو ما أسهم في نهاية الإمبراطورية البريطانية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويرى معظم الخبراء أن اغتصاب مكانة الدولار غير محتمل في السنوات الخمس عشرة إلى العشرين القادمة. ومع ذلك، فإن الاستخدام العالمي والإقليمي المتزايد لعملات رئيسية أخرى، مثل الرنمينبي (عملة الصين) واليورو –التي تتقاسم مكانة عالمية مع الدولار- سيكون أكثر احتمالاً في الفترة حتى العام 2030. وبينما تصبح آسيا محطة القوة الاقتصادية العالمية والمُقرِض العالمي الرئيسي، فإنها مسألة وقت فقط قبل أن تحوز عملاتها أيضاً مكانة عالمية أكبر. وسيكون للسرعة أو البطء اللذين يمكن أن يحدث بها ذلك أثر كبير على دور الولايات المتحدة العالمي.
رؤى جديدة متنافسة لنظام
عالمي جديد –للوقت الراهن
يبدو استبدال الولايات المتحدة بقوة عالمية أخرى وإقامة نظام دولي جديد أقل النتائج احتمالاً في هذه الفترة من الزمن. لن يكون من المحتمل أن تتمكن قوة أخرى من امتلاك نفس العدة والعتاد اللازمين للسلطة في هذا الإطار الزمني تحت أي سيناريو معقول. ولا شك أن القوى الناشئة تواقة إلى اتخاذ أماكنها على طاولة قمة المؤسسات متعددة الأطراف الرئيسية، مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لكنها لا تتبنى إلى جانب ذلك أي رؤية منافسة. وعلى الرغم من كونها متناقضة مع، أو حتى مستاءة، من النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، فإنها قد استفادت منه، وهي تبقى أكثر اهتماماً بمواصلة تنميتها الاقتصادية وتماسكها السياسي من تحدي قيادة الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن القوى الناشئة ليست كتلة: إنها لا تملك أي رؤية توحيدية بديلة.
بدلاً من ذلك، يبدو منظور هذه القوى -وحتى منظور الصين نفسها- مرتبطا أكثر بتشكيل الهياكل الإقليمية. ومن شأن حدوث انهيار أو تراجع مفاجئ لقوة الولايات المتحدة أن ينتج على الأرجح فترة طويلة من الفوضى العالمية، حيث لن يكون هناك أي نظام دولي مستقر، ولا قوة بارزة رائدة لتحل محل الولايات المتحدة. وعندما ناقشنا احتمال انخفاض قوة الولايات المتحدة مع محاورينا في الخارج، اتجه كثير من العلماء والمحللين إلى افتراض أن مستويات أعلى من الفوضى والاضطراب يمكن أن تنشأ، حتى أكثر مما افترضه العديد من الخبراء الأميركيين أنفسهم.
ضبابية الفترة الانتقالية
يذكّر الحاضر الراهن بنقاط انتقالية سابقة، مثل انتقالات الأعوام 1815، 1919، أو 1945، عندما كان الطريق إلى الأمام غير واضح ومحدد المعالم، وحيث واجه العالم إمكانية حلول أشكال متباينة من المستقبل العالمي. وفي كل تلك الحالات، كان الانتقال مطوَّلاً، وكانت إعادة التوازن مسألة تعتمد، جزئياً، على التجربة والخطأ. كانت السياسات الداخلية عاملاً مهما لتشكيل النتائج الدولية. وفي الطريق إلى المستقبل، سوف تكون السياسة الداخلية الأميركية حاسمة بالنسبة للكيفية التي تتصور بها الولايات المتحدة وتحاكم دورها الدولي. وقد أكد العديد من محاورينا الحاجة إلى تحقيق توافق قوي في الآراء السياسية داخل أميركا كشرط رئيسي لتحقيق تنافسية اقتصادية أكبر للولايات المتحدة. وسوف تعيش ولايات متحدة منقسمة وقتاً أكثر صعوبة في محاولتها تشكيل دور جديد لنفسها. سوف يكون التحول ابتعاداً عن الأحادية القطبية نحو قيادة عالمية جديدة عملية متعددة الجوانب ومتعددة الطبقات، تتجلى على عدد من المستويات المختلفة، والتي ستكون مدفوعة أيضاً بتطور الأحداث وتكشفها، على المستوى المحلي، وعلى النطاق الأوسع في بقية أنحاء العالم على حد سواء.

ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية.
هامش
(1) مغيرات اللعبة game changers: مغير اللعبة، هو شخص أو فكرة تغير القواعد المقبولة والعمليات والاستراتيجيات وإدارة المهمات. أو هو عنصر أو مكون مُنتج حديثاً، والذي يغير وضعاً أو نشاطاً قائماً بطريقة يعتد بها.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً