الروائي الأريتري حجي جابر .. الهُوية والمكان والكتابة

2017/07/04
Updated 2017/07/04 at 8:33 صباحًا


الايام -بديعة زيدان:قبل عقد من الزمان، وفي جدّة، توجهت إلى السفارة الأريترية مرتبكاً، وربما خائفاً .. ترددت كثيراً عند البوابة، وحين عبرت بدأت ألاحظ أن المكان في الداخل يختلف عنه في الخارج .. وجدت إناثاً وشباباً وموسيقى .. ارتحت قليلاً أن الموجودين لم يستغربوا من حضوري وتواجدي، وهو ما أزال شيئاً من حالة الخوف، وساهم في تنمية شيء من حالة الثقة .. تجولت ببصري في المكان، فوجدت مجموعة متحلقة حول شاب يعزف على البيانو .. اقتربت منهم، ولم يثر اقترابي أي شيء، ومع هذا الاقتراب بدأت أشعر بنوع من الألفة تجاه الموسيقى .. حينما اقتربت أكثر، وبتّ واحداً من المجموعة تأكدت تماماً أنني أعرف هذه الموسيقى .. حاولت بطريقة أو بأخرى استحضار الأغنية أو المعزوفة، وحينها كان صوتي مرتفعاً وأنا أخاطبهم بأنني نسيت اسم الفنانة صاحبة هذه الأغنية، فتوقف العازف عن العزف، والمجموعة كلها غرقت في حالة شبه هستيرية، لأنني اكتشفت أن ما كان يعزف هو النشيد الوطني الأريتري”.. بهذه العبارات بدأ الروائي الأريتري حجي جابر، الحديث عن حكاياته مع الهُوية والمكان، والكتابة.
وتابع جابر الحكاية: قبل هذا بثلاثة عقود، كنّا قد غادرنا أريتريا إلى جدّة .. غادرت عائلتي تحت القصف، أثناء “حرب الاستقلال” .. نشأت في جدّة سعودياً، وبدأت أتشرّب حالتي كسعودي شيئاً فشيئاً، إلى أن وصلت إلى حالة أهلتني لأن أكون “جدّاويا بالكامل”، وأتحدث اللهجة “الجدّواية” أكثر مما يفعل كثيرون من أهل المدينة .. أصبحت أرتدي الثوب السعودي، وأستمع لطلال مداح وعبادي الجوهر، وأطرب لهما، وأشجع النادي الأهلي بشكل كبير، والمنتخب السعودي بطبيعة الحال، وبدأت أستزيد من هذه الحالة إلى تاريخ شكل بالنسبة لي بداية تحول ما، وهنا أتحدث عن حرب الخليج الثانية، عندما غزا العراق الكويت، وانتبه السعوديون، وقتها، إلى أنهم بحاجة إلى مسابقة ما بينهم وبين الآخرين .. نحن من بين الآخرين.
وحول هذا التحول، أشار جابر: بدأت أشعر هنا أنني مختلف، فهناك فعل شبه يومي لتنبيهي في المدرسة من قبل السعوديين بأنني لست منهم، فبات يأتي المدرس أو المدير أو المرشد ليطلب منا نحن “الأجانب”، وهو المصطلح الذي بدأ يطغى، بأن ينتحوا جانباً، أو يقوموا بأفعال مغايرة لتلك التي يمارسها المواطن السعودي، وهذا لم يؤثر عليّ بشكل كامل عكسياً، إلى أن تأهل المنتخب السعودي لكرة القدم إلى نهائيات كأس العالم في العام 1994 .. “كنا لا نزال نشعر بالانتماء للبلد، وللمنتخب، وخرجنا نحتفل بشكل تلقائي، وبفرحة كبيرة، مع المحتفلين في الشوارع، وكنت مع مجموعة من “السعوديين الأفارقة”، منهم الاريتري والسوداني والصومالي، حين استوقفنا رجل أمن سعودي، ولطم رفيقنا السوداني بدعوى الإزعاج، وقال له: “السعوديون يزعجوننا، ولكن ليس لديك الحق لتزعجنا أنت أيضاً … “هنا شعرت بأنني بالفعل أصبحت شخصاً آخر”.
ثم توالت الأحداث والأمور، إلى أن جاء “القرار الداخلي، بعد الكثير حقيقة من التفكير، بأنني بحاجة إلى فك الارتباط بحالتي السعودية، التي تتطلب الارتباط بحالة أخرى، وهي هنا أريتريا التي لا أعرف عنها شيئاً”، فكان “ذلك المشهد الذي بدأت الحديث به، حين قررت أن أكون جديداً، فتوجهت إلى السفارة”.
واعترف صاحب “سمراويت”: بدأت رحلة إلى الجانب الآخر، لاستبدال مكونات وجداني، فيخرج السلام الملكي السعودي ليحل مكانه النشيد الوطني الأريتري، ثم يخرج الثوب السعودي (الدشداش) ويستبدل بالجلابية الأريترية، وخرج عبادي وطلال مداح وجاء عوضاً عنهما المناضل الفنان المعتقل حالياً إدريس محمد علي، وهو قامة كبيرة، لكنني لم أستطع إخراج نادي أهلي جدّة السعودي، لأنني أحبه أكثر ربما، ولأنني لم أجد بديلاً في أريتريا، كوننا لا يمكننا التشبث بتشجيع نادٍ أو منتخب في أريتريا، كون أن أي نادٍ أو منتخب يذهب لتمثيل أريتريا في الخارج يهرب ولا يعود، ومن يعود فقط المدرب الأجنبي لينال ما تبقى من مستحقاته، ولهذا لم أستغرب من سلطات الأمن الأردنية، وبعدها الإسرائيلية، لقناعتهم عند قدومي إلى فلسطين بأنني لست روائياً، وربما انتحل هذه الشخصية لأهرب!
ورأى جابر أن هذا كله “توج بقرار العودة إلى أريتريا في المرة الأول العام 2010 .. عدت مضطرب المشاعر، لكني كنت سعيداً بأنني لأول مرة أعرف معنى الوطن، ومعنى أن أكون في مكان أستطيع فيه أن أصرخ، لأنني في السعودية وكافة الأماكن التي عشت فيها تأكدت أنني لا أستطيع أن أغضب، فكنت مقرراً أن أغضب في أريتريا، التي وجدت فيها مكاناً جميلاً، وأناساً طيبين، حتى في المكان الذي ولدت فيه، ووجدت فيه من يسكنه، لكن للأسف كانت أريتريا قد تغيرت”.
“في أريتريا تسع لغات، أتقن واحدة منها إضافة إلى العربية، واللغة التي أتقنها هي لغة الأغلبية غير الحاكمة، وحين أنفي معرفتي بلغة الأقلية الحاكمة، ينفي عنه المحيطون بي أريتريتي”، مشدداً بوجع “عدت مشوشاً، فقد كنت قد غادرت السعودية، لكني لم أصل إلى أريتريا، وهذه المنطقة الوسطى بين عالمين.
“الرواية الأولى لي (سمراويت)، وهي التي حملت حكايتي بطريقة أو بأخرى، وكنت من خلالها أحاول التعرف أو تحديد هذه الملامح دون أي جدوى”، أكد صاحب “مرسى فاطمة”.
وقال جابر: في العمل الثاني “مرسى فاطمة”، كانت الأزمة أصبحت واضحة، حيث أدركت أنني أعاني من مشكلة بالهوية، كوني في منطقة وسطى بين مكانين، فقد كنت قد قررت يقيناً أنني لست سعودياً، وبالتالي لن أكتب عن السعودية .. سأكتب عن أريتريا لكني لا أعيش فيها .. وهنا بدأت أعيش مشكلة الهوية، ومشكلة الكتابة عن المكان .. أشعر بالسعادة حين يقرأ لي أي كان رواية “مرسى فاطمة”، رواية المكان الأريتري التي بذلت فيها الكثير من الجهد لأكون على قدر التحدي، حيث قمت بعمل استقصائي، وبجمع الشهادات والمقارنات فيما بينها، وشاهدت “فيديوهات” كثيرة كي أكتب عن أماكن لم أرها من قبل.
وتمنى جابر في مداخلته بملتقى فلسطين الأول للرواية العربية، أن يكون نجح في مهمته عبر “مرسى فاطمة”، متسائلاً: لا أدري إلى أي مدى تمكنت من نقل أحداث ومشاعر وربما وصف جغرافي ما عن مكان لم أعش فيه، وكان هاجسي الدائم هو ألا يظهر بأن هذا العمل عن المكان كان عن بعد.
في “لعبة المغزل” رأى جابر أنه “وجد الحل على مستوى الهوية، وعلى مستوى المكان، فعلى مستوى الهوية بدأت أتقبل هذا التنوع، فأنا الآن على قناعة بأنني أريتري وسعودي أيضاً، وألبس اللباسين الشعبيين، وأستمع للمطربين من البلدين، أما على مستوى المكان، فلم أعد محصوراً بالجغرافيا الأريترية، رغم أنني أكتب الهمّ الأريتري، وربما يكون هذا “مجرد مخرج”، ولذلك فإن روايته التي قد ترى النور قريباً، تتناول الهمّ الأريتري بشكل مغاير تماماً، وبعض من أحداثها، أو أكثر، يجري في فلسطين!

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً