في مثل هذه الأيام ، وقبل أربعة عقود ، كانت ذكرى الاحتلال واللجوء تداهم أيامنا ، وكنا نحاول صياغة الوقت بما يلائم شغفنا ، وحماسنا لترتيب جديد ، وفعل أكيد ، نأمل به ومن خلاله صناعة حياة جديدة للفلسطيني .
في مثل هذه الأيام … كان الدم الفلسطيني ، يسيل في الجهات الأربع ، ولكن كان الحلم الفلسطيني يقظا ، لا تسيل منه أية قطرة ، وكنا لا نبالي كم يموت منا ، لأنه كان موتا ناصعا ، من اجل الحلم ، فلا شائبة تشوبه ولا خنجر يأتي من الظهر ، سوى خنجر الأعداء وأعوانه .
في مثل هذه الأيام ، وكما نسميها ” ذكرى النكبة ” داهمني خبر رحيلك ، لم يكن بصري قد اشتد ، كي أتملى قامتك العالية ، ويدي بالكاد تتحسس سخونة يدك ، ولكن ذاكرتي مازالت تحفظ رنين صوتك ، ذاك الذي لم يكف عن سيرة يافا وعن حلم كان قد تعمد ببحرها . \نعم يا أبي .. في مثل هذه الأيام ، كنت تمتطي زورقك مع صحبك ، باتجاه فلسطين الحقيقية ، فلسطين الكينونة غير المتحولة في ضميركم ووجدانكم …
نعم كنت في مثل هذه الأيام مع صحبك ، الذين لم يكفوا عن حلمهم ، وسعيهم إلى الوطن الجميل ، حينما اخترقت رصاصات العدو قلب زورقكم ، وتلعثم الموج بأجسادكم ، تلك التي تأبى الانكسار
نعم يا سيدي … إنكم تأبون الانكسار ، فحينما كفت قلوبكم عن النبض الفيزيائي ، لم تكف قلوب أبنائكم وشعبكم ، عن ذكركم ، وعن حلمكم .
ولكن المؤلم بعد أربعة عقود ، أن تكف بعض الساسة والأحزاب عن حلمكم ، وأن يحاول البعض قطع وشائج القربى بيننا وبينكم !
نعم يا سيدي هذا ما يؤلم ، فهل سمعتم بما يجري الآن بيننا ؟!
في مثل هذه الأيام … قطعتم بحارا كي تلامسون موجة من موجات بحرنا .
في مثل هذه الأيام … تركتم كل غال ونفيس وراء ظهركم ، لأن الأغلى والأنفس كانت فلسطين … أما هذه الأيام : فيحزنني يا والدي أن أبلغك وصحبك أن فلسطين … يحاولون تضييعها ، وبعثرتها في أروقة التيه السياسي ، وفي أجندات الساسة بغير ما حلمتم ..
يا والدي لا تحزنوا … ما زال فينا وبيننا من يعض على الجراح ، ويقبض على جمر بداياتكم وأحلامكم ، ولكن ما يحزننا أن البعض فينا وبيننا يحاول إدامة حزننا وآلامنا ، دونما أي برر ربما فقط لأنهم قد تعبوا ، وربما لأنهم يريدون الاستمتاع ببعض مال أو مسكن .. أبناؤكم وأمثالهم لا يملكون منه شيئا … فسامحوهم يا أبي ، نحن لا نخاف على شيء ، ولكن هم يخافون على ما ذكرت ، سيما وأنهم قد حصلوا
على كل ذلك ” بجهدهم ” وعرق جبينهم الذي تصبب في حوارات مضنية مع الساسة الأعداء وغيرهم ، ألم ترى من قبرك يا سيدي : كيف الأعداء يهابوننا ويخشون التحدث عنا ؟!
في مثل هذه الأيام … حملتم يافا وحيفا في قلوبكم ، وذهبتم إلى هناك ممتلئين بوهج الحقيقة ، بروح التحدي ، لتنثروا دمكم على سفوح الكرمل وشواطئ العجمي والمنشية ، لتزداد نصاعة ، وحقيقة أنكم منها وأنها منكم ولكم … \ولكن هذه الأيام يا والدي … يخجل بعضنا من ذكر / يافا وحيفا / على اعتبارها جغرافيا الحقيقة والحلم الفلسطيني … لا أعرف لماذا يا سيدي يخجلون ؟!!
ولكن التمس العذر لهم ، فربما أنهم ” يمرحلون ” الحلم ، الوطن ، ولكن هل يمرحلون الخجل ، أو يرحلونه ؟!!
في مثل هذه الأيام .. كانت النكبة تعض شعبنا في مخيماته ، وهم هائمون يفتشون عن كل وسيلة ، يردون فيها على الألم ، وهم يحاولون إعادة الثقة إلى النفس المجروحة ، كي يعيدون الوطن ، الحلم ، يبلسمون الجراح والذاكرة ، التي لم تغادر مرابعها ، ولكن اليوم نتحدث عن الذاكرة ، بمنطق الترف ، واستدعاء ما كان جميلا ولكن من باب التسليم ، وفي أحسن الأحوال البكاء على ما كان ، والذي لن يعود … وعليه ينصحنا ” العقلاء ” بالاكتفاء بما يعطى إلينا من جبنة الوطن ، كي لا تطير الجبنة كلها من أيدينا …
فهل من أجل هذا المنطق يتمتم أبنائكم ورملتم نسائكم ، وتركتم وهج شبابكم ؟ هل من أجل هذا خالط دمكم موج البحر .. ؟؟!!
لا تحزن يا والدي … وقل لصحبك لا يحزنون ، والتمسوا العذر لمن يحاول ذلك ، فربما أنهم خائفون ، ولا يثقون بقدرات شعبكم ، كما كنتم تثقون …
التمسوا العذر لهم ، فربما أنهم يحاولون طريقا آخر تجهلون … ربما …. !!
ولكن عندما تدق أجراس ذكراك وصحبك ، فأنا ومثلي كثيرون في هذا الفضاء لا نسمع غير صوت حلمنا ، ولا نرى غير الجرمق والكرمل وشواطئ العجمي ومهما تطاولت الأيام … لا بد عائدون ، كي نضيء مثلكم فإنا نكره الانطفاء .