الدول العربية وآلام المخاض

2014/07/14
Updated 2014/07/14 at 11:04 صباحًا

 bread-syria

يبدو أن الأميركيين والأوروبيين الذين أخذهم تفكك الدولة العراقية على حين غِرة، بعد أن عَجَّل به التقدم السريع الذي حققه المتشددون المسلحون المنتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، عادوا إلى ولعهم بجلد الذات. والواقع أن حصة كبيرة من المسؤولية عن الاضطرابات والمحنة التي يعيشها العراق، ناهيك عن سورية، تقع بلا أدنى شك على عاتق الإرث الاستعماري الغربي الخبيث والسياسات الخاطئة العنيدة في الشرق الأوسط العربي. لكن هذه الاضطرابات التي تجتاح العالم العربي تعكس في نهاية المطاف تلك المواجهة الصعبة بين حضارة قديمة وتحديات الحداثة.
لا شك أن مشروع الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في العراق كان متهوراً وغير مدروس إلى حد مأساوي، تماماً كما كان فشل الرئيس باراك أوباما لاحقاً في الإبقاء على قوة كافية في العراق بعد سحب الولايات المتحدة لقواتها من هناك. والواقع أن رحيل القوات الأميركية المتسرع سمح لتنظيم “داعش” باكتساب الأرض، في حين عمل على تمييع الحدود مع سورية. وفي اندفاعة تنظيم داعش إلى إقامة دولة إسلامية، قامت قواته بغزو سورية من الموصل قبل وقت طويل من غزوها للموصل من سورية.
لكن التاريخ كثيراً ما يتشكل بفعل قوى ساحقة مجردة -مثل الدين، والهوية العرقية، والمواقف – والتي لا تتقبل الحلول القائمة على القوة، ناهيك عن التدخل بجيوش أجنبية. فحتى لو لم تُقدِم الولايات المتحدة على غزو العراق قَط، فليس من المستبعد تماماً افتراض أن انتقال السلطة بعد حُكم صدّام حسين كان ليتم في إطار من العنف، وبنتائج أشبه بما يحدث في سورية اليوم أو ما حدث في يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين، عندما انتهت حرب أهلية وحشية هناك إلى تقسيم البلاد على أسس عِرقية.
في هجومه الشهير على الحتمية القَدَرية، لم ينكر الفيلسوف أشعيا برلين أن بعض العوامل البنيوية قد تحرك التاريخ؛ لكنه رفض ببساطة استغلال ذلك كذريعة لتجنب المسؤولية الأخلاقية. فبالرغم من عجز النخب العربية عن السيطرة على قوى الإمبريالية الغربية على سبيل المثال، فإن فشل هذه النخب في الإقرار بنصيبها من المسؤولية عن المشاكل التي تبتلي المجتمعات العربية الحديثة يرقى إلى ارتكاب جريمة الخيانة في حق شعوبها.
يكمن في صميم المأزق العربي اليوم أزمة تتعلق بمفهوم الدولة العربية. وقد نَدَّد العرب لفترة طويلة بمفهوم إسرائيل العرقي للقومية، محتجين بأن الدين لا يشكل أساساً شرعياً تقوم عليه الدولة، وكأن دول أوروبا لم تبدأ كجمهوريات مسيحية ولم تظل كذلك لقرون من الزمان، وكأن الدول العربية المحيطة بإسرائيل كانت مثالاً للتنوع الديني والعِرقي.
الواقع أن الدول العربية تنهار الآن بسبب عجزها على وجه التحديد عن ترويض نفسها على مثل هذا التنوع. بطبيعة الحال، لا تتفرد الدول العربية بهذا الصراع. ففي أوروبا، تطلب إنشاء اتحاد سلمي شبه فيدرالي خوض حربين عالميتين وإعادة رسم الحدود الوطنية من خلال التطهير العرقي -وما تزال أوروبا تواجه التحدي المتمثل في الحركات القومية والمعادية للأجانب. وعلى نحو مماثل، انتهت تجربة يوغوسلافيا متعددة الأعراق بشكل عنيف في أعقاب انهيار نظامها الدكتاتوري.
لن يكون نضال العالم العربي لخلق نظام اجتماعي سياسي أسهل بأي حال. بل وقد لا تكون سورية والعراق الذي يتألف الآن من أشباه دول منفصلة كردية وشيعية وسُنّية، مع امتداد الأخيرة إلى سورية، آخر بلدان المنطقة التي قد تواجه التحديات التي تفرضها الحدود التعسفية التي أقامتها القوى الاستعمارية في المنطقة في نهاية الحرب العالمية الأولى.
الواقع أن ثورات الربيع العربي لم تندلع فقط بدافع من توق الجيل العربي الجديد إلى الديمقراطية، التي ما تزال بعيدة المنال غالبا؛ بل إنها تدور الآن في الأساس حول إحباط الأقليات التي أهمِلَت لفترة طويلة في عهد ما بعد الاستعمار، والتي تناوب على قمعها حكام مستبدون سعوا إلى فرض الوحدة على مجتمعات متعددة الأعراق.
اليوم، يشهد الشرق الأوسط انهيار فكرة قدرة الدول العربية على استيعاب مجتمعات متنوعة دينيا. وهذه ليست بالمشكلة التي قد تستطيع أي قوة أجنبية حلها. وكان الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو أنها حاولت اختصار عملية النضوج التي تحتاج إليها التغيرات التاريخية الكبرى. والواقع أن الولايات المتحدة بغزوها العراق كانت تحاول فعلياً التحايل على منطق الدورة التاريخية. فإذا كانت أوروبا قد اضطرت إلى تحمل قرون من الحروب الدينية وحربين عالميتين متعاقبتين لتسوية نزاعاتها الوطنية والعرقية، فكيف للولايات المتحدة أن تتصور أنها قادرة على تصدير الديمقراطية واحترام الأقليات إلى الشرق الأوسط على أجنحة طائرات (إف 16)؟ ولعل ما ينبئنا بالكثير هنا أن عمليتي انتقال السلطة الديمقراطية الأكثر نجاحاً في العالم العربي في السنوات الأخيرة، في تونس وكردستان، تمتا بأدنى قدر من التدخل من جانب الغرب.
لقد أصبح مستقبل الشرق الأوسط العربي بين أيدي شعوبه، والتاريخ لا يسمح بالطرق المختصرة. ومثلهم مثل كل الحضارات الأخرى في التاريخ، لا بد أن ينخرط العرب في عملية طويلة من التجربة والخطأ، والتي تهدف إلى التغلب على التحديات البنيوية التي تواجههم، وهي العملية التي من المرجح أن تمتد عبر قسم كبير من القرن الحادي والعشرين.
مهما بلغت السياسات الغربية من خبث، فإن ظهور القوى الإسلامية يظل نتيجة طبيعية في الأراضي العربية، وهي تشكل استجابة حقيقية لإخفاقات القومية العربية العلمانية والدولة العربية الحديثة. وهذا لا يعني أن الغرب لا يستطيع أن يقدم المساعدة، لكنه ينبغي أن يفعل هذا بقدر كبير من التواضع والحساسية الثقافية، مستخدماً الدبلوماسية الذكية بدلاً من “ضربات مكافحة الإرهاب”.

الغد الأردنية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً