وهم الوسطية … بقلم: د. قدري حفني

2013/04/18
Updated 2013/04/18 at 3:03 مساءً

   untitled


تعد تعبيرات “التوسط” من أكثر التعبيرات تشبعا بالسمعة الاجتماعية الإيجابية، و لعلها الأكثر انتشارا في لغتنا اليومية المنطوقة و المكتوبة. نادرا ما يصف المرء نفسه بالتطرف دينيا أو سياسيا. الجميع يصفون أنفسهم بأنهم معتدلون أصحاب أفكار و عقائد وسطية لا تعرف تطرفا و لا انحيازا. يستوي في ذلك الدكتور أيمن الظواهري الدكتور كمال الهلباوي و الدكتور محمد بديع و الدكتور ناجح إبراهيم إلي جانب السيد عمرو موسي و الدكتور محمد البرادعي و غيرهم، و حتي بالنسبة للخصائص الشخصية؛ فنحن نتحاشي أن نوصف بالتزمت أو بالبخل، أو بالإسراف.

و لكن تري هل ثمة اتفاق علي ما يعنيه تعبير “التوسط” تحديدا؟ و هل ثمة علاقة بين التوسط و الصواب، بمعني أن المرء طالما اتخذ موقفا وسطا فهو علي صواب بالضرورة؟ أو أنه أقرب إلي “الموضوعية” أو إلي “الاعتدال السلوكي”؟ هل كلما وجدت من هم علي يميني و من هم علي يساري تيقنت أنني في الموقع الصحيح؟

قد يكون كل ذلك صحيحا نظريا بل و مقبولا أخلاقيا إذا ما كان ثمة موقع للمتوسط يمكن تحديده دون نظر لما يحيط به، و هو ما ينفيه علم الإحصاء حيث يرتبط تحديد قيمة المتوسط بتدرج توزيع بقية القيم، أو بعبارة أخري فإن الفرد لا يكون “متوسطا” إلا بمقارنته بجماعة الأقران، و من ثم فإن متوسط دخل الفرد الأوروبي يختلف عن نظيره في دول الخليج أو مصر مثلا، و غني عن البيان أن “الدخل المتوسط” لا يعني بحال أنه يكفي ضرورات الحياة إذا ما كانت موارد الجماعة دون الكفاية، كما أنه لا يعني توافر قدر يزيد أو يقل من العدل الاجتماعي. إن قول المرء أنه يشغل مكانا وسطا قد لا يعني بالنسبة له سوي أن هناك من يتفوقون عليه و هناك أيضا من يتفوق عليهم.

و لقد لاحظت عبر سنوات طوال من ممارسة البحث الاجتماعي النفسي علي المستوي الميداني و الاستشاري و التعليمي، أن نتائج العديد من الاستبيانات تشير إلي أنه إذا ما طلب من الفرد أن يحدد موقعه بالنسبة للآخرين؛ فإنه غالبا ما يميل إلي تصنيف نفسه ضمن “المتوسطين” سواء كان السؤال متعلقا بالدخل أو التدين أو الاتجاهات السياسية أو حتي التدخين أو الالتزام بقواعد التغذية الصحية. و لعل شيوع ذلك الميل يرتبط بحقيقتين؛ تتعلق إحداهما بالعالم الفيزيقي و الثانية بالوجود الاجتماعي:

ليس ثمة وجود للصفر و لا للانهائية في عالمنا الفيزيقي المادي المتغير دوما و من ثم فكل موجود إنما يحتل موقعا ما بين نقطتين متطرفتين مفترضتين نظريا، و يترتب علي ذلك حقيقة اجتماعية مؤداها أن “المتوسطين” هم الغالبية دائما، و إحساس المرء بالانتماء إلي الغالبية يدعم شعوره بالأمان النفسي الاجتماعي، كما يلعب دورا حاسما فى تشكيل سلوكه الاجتماعى، بل وفى تشكيل ملامح شخصيته أيضا؛ و قد يكون في ذلك تفسيرا لذلك الميل الغلاب للانتساب للغالبية، إنه سعي للاستمتاع بأمن الوجود في كنف الجماعة الأكبر.

و لعل تقدير الفرد لمكانته الاقتصادية يعد تجسيدا لمفهوم نسبية الوسطية: إن الغالبية ينفرون من إدراج أنفسهم ضمن أصحاب الثراء الفاحش أو الفقر المدقع، فإذا ما وضعنا في الاعتبار أن سلوك الفرد إنما يتحدد وفقا لذلك التقدير الذاتي، أدركنا مدي أهمية تفسير مثل تلك التقديرات؛ فرغم عمومية ذلك الميل نحو المتوسط لدى الفقراء والأثرياء على حد سواء فإن تفسيره لدي الفقراء يختلف عن تفسيره لدى الأثرياء. فالفقير المدرك لفقره قد يحجم عن الإفصاح عن إدراكه الواقعى “خجلا” أو “تطلعا”. فهو قد يرى فى الفقر نوعا من الدونية يأباها ومن ثم يفضل إدراج نفسه فى الفئة التى ينظر إليها ويتوق إلى أن يكون منها. ومن ناحية أخرى فقد يعجز الفقير عن إدراك فقره إدراكا واقعيا يحكم “القناعة” والنظر الى من هم أكثر منه فقرا”. أما بالنسبة للثرى المدرك لثرائه فقد يخشى الإفصاح عن إدراكه الواقعى خوفا من تطلع الآخرين إلي ثروته بشكل ما. ومن ناحية أخرى فقد يعجز الثرى عن إدراك ثرائه إدراكا واقعيا بحكم سيادة قيم المجتمع الاستهلاكى التى تشد انتباه الفرد كلما ازداد ثراء إلي أنماط استهلاكية أشد شراهة وأعلى تكلفة تدفع به دوما وعلى مستوى الإدراك الذاتى الى فئة المتوسطين أى الأقل ثراء من أولئك القادرين علي استيعاب الأنماط الاستهلاكية الجديدة وهكذا.

و لا ينفي شيوع هذا الميل نحو “المتوسط” خضوعه لرؤية الفرد لتفسير الآخرين لإفصاحه عن تلك الرؤية، و ما يترتب علي ذلك من موقفهم حياله؛ فالأمر يختلف مثلا إذا ما كان المرء يحاور مندوبا للضرائب، عنه إذا كان يحاور أسرة يتقدم لخطبة إحدي فتياتها، أما إذا ما كان بصدد الإجابة عن سؤال في استبيان علمي فإن الأمر يتوقف علي استنتاجه للهدف “الحقيقي” لذلك الاستبيان.

وخلاصة مانراه فى هذا الصدد أن التقييم الذاتى للفرد إنما يتأثر إلى حد كبير بطبيعة القيم التى يدعمها المجتمع و التي تتغير من مرحلة تاريخية لأخري، والتى تحدد علي سبيل المثال ما إذا كان الأفضل اجتماعيا أن يتبرأ من “وصمة” الفقر، أم من “شبهة” الثراء. و من ثم ينبغي أن تتجه نظرته صوب من هم “أعلى” أو “أدنى” منه اقتصاديا و اجتماعيا.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً