الأيديولوجية تزعزع الاستراتيجية الأميركية في سورية

2013/09/21
Updated 2013/09/21 at 10:46 صباحًا

3_1371267933_1741

يُقال إن الدبلوماسي النمساوي الشهير كليمنز فون ميترنيخ سأل عندما سمع بموت السفير التركي: “أتساءل: ماذا قصد بموته ذلك؟”. سواء كانت هذه القصة حقيقية أو لا، وسواء كانت جدية أو مجرد دعابة، فإنها تجسد إحدى مشكلات الدبلوماسية. فبالبحث عن معنى وراء كل إشارة، يبدأ الدبلوماسيون باعتبار كل فعل مجرد إشارة أو حركة.
وفي الشهر الماضي، تعاطى الرئيس الأميركي مع قصف سورية على أنه إشارة هدفها نقل معنى ما، لا عمل عسكري هدفه تحقيق غاية محددة. وهذا يُعتبر المفتاح الأساس لفهم الرواية التي شهدنا بعض فصولها خلال الشهر الماضي.
عندما هدد الرئيس باراك أوباما بتنفيذ عمل عسكري رداً على ما اعتبره استعمال الحكومة السورية أسلحة كيماوية، أراد شن ضربة محدودة لا تدمر هذه الأسلحة، فتدميرها كلها من الجو يتطلب هجمات جوية واسعة النطاق تستغرق وقتاً طويلاً، فضلاً عن أنه قد يؤدي إلى إطلاقها في الهواء، كذلك لم يهدف من خلال هذا العمل إلى الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد، فهذه أيضا مهمة يصعب تنفيذها من الجو، وتحمل خطر توليد فراغ في السلطة لا تود الولايات المتحدة مواجهته، وبدلا من ذلك، كانت غاية أوباما إعلام الحكومة السورية أن الولايات المتحدة غير راضية عما يحدث.
لا يُعتبر التهديد بشن حرب أمراً فاعلاً إلا عندما يكون حقيقياً وكبيراً، لكن الولايات المتحدة تعمدت أن يكون هذا التهديد محدوداً، فستدمر عمليتها أمراً ما، إلا أنه لن يكون النظام أو الأسلحة الكيماوية.
بدا واضحا من البداية أن أوباما لم يرد الإقدام على أي عمل عسكري ضد سورية، فقد أيدت استراتيجيته عموما والتفاصيل المحددة المرتبطة بسورية خصوصاً ابتعاد الولايات المتحدة عن هذه الأزمة، فاتبع أوباما هذا المنطق، ولكن عندما استُخدمت الأسلحة الكيماوية، تبدل هذا المنطق، وثمة سببان يعللان هذا التبدل.
السبب الأول، مخاوف الولايات المتحدة من أسلحة الدمار الشامل، فمنذ بداية الحرب الباردة حتى اليوم، طارد الخوف من الأسلحة الكيماوية الأميركيين، ويعتبر البعض هذا الخوف غريباً، نظراً إلى أن الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي استخدمت القنابل الذرية. لكنني أعتقد أن هذا هو بالتحديد سبب خوفها، فبين هيروشيما والدمار المتبادل الأكيد، كان الخوف من عواقب حرب نووية محقاً. كذلك ولد اعتداء بيرل هاربر الخوف من أن تنشأ الحرب في أي لحظة من دون توقعها، كذلك عزز الوعي الكبير لما حدث في هيروشيما وناغازاكي الخوف من تدمير الولايات المتحدة فجأة.
انضمت الأسلحة الأخرى القادرة على محو أعداد كبيرة من الناس إلى الأسلحة النووية، خصوصا الأسلحة البيولوجية والكيماوية. وهكذا تحول مفهوم أسلحة الدمار الشامل من “الدمار الشامل” إلى السلاح بحد ذاته، ونتيجة لذلك، صار امتلاك بعض اللاعبين أسلحة مماثلة ما كان يقتنونها من قبل يُعتبر تهديداً للولايات المتحدة، وما عادت عتبة الدمار الشامل المعيار الأهم، بل بات سبب الموت المحور الرئيس في أي هجوم. على سبيل المثال، لقي عشرات الآلاف حتفهم في الحرب الأهلية السورية، لكن الاختلاف الوحيد في الوفاة، الذي دفع بأوباما إلى التهديد بتوجيه ضربة، كان سببها: الأسلحة الكيماوية، واعتُبر هذا الاختلاف وحده كافياً ليحمل جهاز السياسة الخارجية الأميركي على تبديل استراتيجيته.
يُعتبر السبب الثاني لهذا التبدل أكثر أهمية، فتميل كل الإدارات الأميركية إلى التفكير عقائدياً، وثمة توجه عقائدي بارز في إدارة أوباما، التي تشعر بأن من الضروري استخدام القوة العسكرية الأميركية لمنع حدوث إبادات جماعية. حتى إن كثيرين من مؤيدي التدخل الأميركي في العمليات الإنسانية يُعارضون اللجوء إلى القوة في ظل ظروف أخرى، إلا أنهم يعتبرون استعمالها واجباً أخلاقياً لوقف عمليات القتل الجماعي.
تنامى الضغط الذي تعرض له أوباما من داخل إدارته، خصوصاً ممن قلقوا بسبب استخدام أسلحة دمار شامل ومَن رأوا رواندا أخرى تلوح في الأفق، إذاً، كانت عتبة التدخل الإلزامي الأخلاقي منخفضة، وألغت في النهاية العتبة الاستراتيجية الأعلى بكثير التي حددها أوباما. ويُعتبر هذا التوتر سبب التأرجح الغريب الذي ظهر في تعاطي أوباما مع هذه المسألة، فمن الناحية الاستراتيجية، لم يرد التدخل في سورية، لكن عقيدة أسلحة الدمار الشامل وعقيدة التدخل الإنساني أرغمتاه على تغيير مساره.

توازن مستحيل

حاول أوباما التوصل إلى توازن بين استراتيجيته التي تفرض عدم التدخل وعقيدته التي تقتضي القيام بأمر ما، مع أن التوازن بينهما مستحيل؛ لذلك كان حله التهديد بصوت عالٍ بعمل عسكري شدد هو ووزير خارجيته كلاهما على أنه سيكون محدوداً، لكن هذا التهديد لم يثر مخاوف تُذكَر داخل نظام الأسد، الذي يخوض حرباً دموية منذ سنتين. في المقابل، صار بإمكان الروس، الذين يسعون إلى البروز بمعارضة الولايات المتحدة، تصوير واشنطن على أنها متهورة وتتصرف بمفردها.
أراد أوباما التخلص من هذه المعضلة، إلا أنه كان بحاجة إلى ما يضمن ضبط الأسلحة الكيماوية في سورية؛ لذلك شعر بضرورة أن يقدم له حلفاء الأسد، الروس، وعداً ما، وهذا ما رأينا في الفصل الأخير من هذه المسرحية الكوميدية في جنيف، موقع اجتماعات الحرب الباردة الخطيرة (من الغريب أن يقبل أوباما بهذا الموقع نظراً إلى دلالته الرمزية)، حيث وافق الروس على إطار زمني غير محدد يتولون فيه مسألة الأسلحة الكيماوية، وفي المقابل، وعد أوباما بألا يتخذ أي خطوات ستكون غير فاعلة في مطلق الأحوال، وهكذا انتهت هذه المسألة.
ولكن لن يكون لهذا الاتفاق أي معنى إلا إذا طُبق، غير أن السيطرة على نحو 50 موقعا للأسلحة الكيماوية وسط حرب أهلية يثير بالتأكيد الكثير من الأسئلة التقنية حول إمكان تطبيقه، ويبدو جوهر هذه الصفقة مبهما بالكامل. كما وافقت الولايات المتحدة على ألا تطلب من مجلس الأمن في الأمم المتحدة الإذن بشن هجوم في حال أخل السوريون بوعدهم، كذلك لم توضح هذه الصفقة الأساليب التي ستُعتمد لتقييم الأسلحة الكيماوية وتأمينها، ويبدو أن تفاصيل هذه الخطة ستفشلها، إلا أن غاية هذا الاتفاق لم تكن حل مشكلة الأسلحة الكيماوية، بل تمرير الوقت لتحرير الولايات المتحدة من التزامها بقصف أهداف ما في سورية.
لا شك أن هذا الاتفاق تناول قضايا أخرى أيضاً، بما فيها مستقبل سورية، فكل من الولايات المتحدة وروسيا تريد بقاء نظام الأسد في موقعه لصد السُنّة، كذلك ترغب كلتاهما في وضع حد للحرب كل لأسبابه الخاصة: الولايات المتحدة للتخفيف من الضغط الذي تتعرض له لدعم السُنّة، والروس للحد من احتمال انهيار نظام الأسد؛ لذلك يبدو أن السماح لسورية بأن تتحول إلى لبنان ثانٍ مع ظهور عدد من أسياد الحرب (والأهم من ذلك، الإقرار أن هذا ما حدث بالفعل) هي النتيجة المنطقية الوحيدة.

العواقب

لعل النتيجة الأهم على الصعيد العالمي تعامل روسيا مع الولايات المتحدة كند للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي الواقع، جلس الروس كمعلمين إلى طاولة التفاوض، وبدوا كمن يلقن الأميركيين غير الناضجين درسا في إدارة الأزمات، ويجب ألا نتعاطى مع هذه المسألة على أنها وهم: فصورة الروس الذين أرغموا الأميركيين على التراجع تتردد في أرجاء المدار الروسي المختلفة.
ومن المؤكد أن الضياع الكامل في أوروبا في هذه المسألة وغيرها من المسائل المهمة، وتأرجح الولايات المتحدة، ورمزية تفاوض كيري ولافرورف كندين سيكون لها تأثير بالغ في مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق لفترة طويلة.
يُعتبر توافق المبادئ الأخلاقية مع الاستراتيجية الوطنية صعباً حتى في ظل أفضل الظروف. صحيح أن العقائد تبدو أكثر جاذبية عموما، إلا أنها تفقد تماسكها في الحالات المحددة، وينطبق هذا الواقع على مختلف أطياف عالم السياسة، لكنه يبدو جلياً في إدارة أوباما، حيث اصطدمت أفكار التدخل الإنساني، وشمولية حقوق الإنسان، ومعارضة أسلحة الدمار الشامل باستراتيجية الحد من تدخل الولايات المتحدة، خصوصا تدخلها العسكري، في العالم. وهكذا انتهى المطاف بالعقائد إلى المطالبة بإدانات وأعمال ترفضها الاستراتيجية.
أدى كل ذلك إلى ما رأيناه خلال الشهر الماضي في المسألة السورية: توتر مستمر بين العقيدة والاستراتيجية دفع إدارة أوباما إلى البحث عن طرق تتيح لها جمع النقيضين. لا تُعتبر هذه الظاهرة جديدة في الولايات المتحدة، ولن تحد من قوتها الموضوعية، إلا أنها تولد حالة من عدم اليقين بشأن نوايا الولايات المتحدة الفعلية. عندما يحدث أمر مماثل في بلد صغير، لا يسبب أي مشكلة، لكنه يصبح خطيرا بالتأكيد، حين تعانيه قوة قيادية.

الجريدة الكويتية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً