صوت الثورة.. من شعار جداري إلى منشور إلكتروني

2016/01/31
Updated 2016/01/31 at 9:35 صباحًا

364649C

بيت لحم- خاص معا- استخدمت الفصائل الفلسطينية والناشطون الثوريون، جدران المدن والقرى والمخيمات في مرحلة الانتفاضة الأولى، كصحيفة حجرية تصل بينهم وبين الشعب، بسبب القيود التي فرضها الإحتلال على وسائل الإعلام الرسمية، ولشُحّ المُمكنات المُتاحة لحشد الجماهير والتعبير عن استمرارية القضية آنذاك.

أما “الهبة الجماهيرية” الحاليّة فقد جاءت بزيٍّ تكنولوجي يتناسب مع فارق الثمانية والعشرين عاماً منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 حتى الأحداث الحالية التي بدأت منذ تشرين أول الماضي لعام 2015، بظهور بارز لدور الاعلام الاجتماعي وبخاصة “الفيسبوك”.

جدران الإنتفاضة الأولى

فرض الإحتلال في فترة الانتفاضة الاولى وما قبلها أو بعدها بقليل، العديد من القيود على الفصائل التي كانت تحاول حشد الجماهير وتعبئتهم بمفاهيم القضية والثوابت الوطنية، فمنعها من استخدام وسائل الاعلام المتاحة آنذاك، حتى ابتكرت للشعب صحيفة حجرية، استخدمت فيها الجدران لمخاطبة الجماهير وممارسة حرية الرأي والتعبير التي انتهكها الاحتلال بقيوده.

“كانت الفصائل تكتب على الجدران في الانتفاضة الاولى شعارات تعبوية تدعو إلى التكفال والتظاهر، وأخرى تحفيزية تكتبها على جدران المناطق التي يسجنُ فيها مواطن أو يرتقي فيها شهيد، أو ينكل الاحتلال بأهلها، تعبيراً عن دعم الفصائل لهم، ودعم صمودهم في هذه المناطق”، كما قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت جمال غياظة.

 

واستُخدمت الجدران حينها كأداة وصل بين الفصائل والشعب، لتنقل من خلالها بيانات القوى الوطنية التي كانت تصدر عن الفصائل الموحدة كل شهر، ولنشر برنامجها السياسي، مثلا: برنامج الإضراب أو الاعلان عنه بجملة “التأكيد على أن يوم غد، يوم إضراب شامل” أو نشر مواعيد زيارة الأهالي لذويهم الأسرى، وللإعلان عن الفعاليات الاسبوعية للفصائل.

وأضاف غياظة في حديث لـ معا “آلات التصوير المتوفرة في الضفة الغربية كانت محدودة، وأي آلة طباعة موجودة في مكتب خدمات أو مدرسة أو أي مؤسسة أخرى كان رقمها مسجلا لدى الاحتلال، ويحتفظ برقمها ليتم مراقبتها، إلا الطابعات التي كانت الفصائل تحصل عليها بشكل سري، وكانت تكلفة الطباعة مرتفعة، لذا لجأت الفصائل لمخاطبة الشعب من منبر الجدران”.

يدخرون مصروفهم لشراء علب “الرش”

من جهته، مدير المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين “بديل” أ. نضال العزة لـ معا: “لم يكن الجميع يملك تكلفة شراء علبة الرش للكتابة بها على الجدران، فكان الشبان والاشبال يدخرون مصروفهم لشراء واحدة منها”.

وأضاف أنه بسبب القيود المفروضة على شرائها كانوا يحاولون الاستفادة منها بشكل اكبر، مثلا كتابة الشعارات عبر قصاصات ورقية، والرش من خلالها على الحائط، للخروج بخط مرتب ولتغطية المساحة الاكبر من المنطقة بالشعارات.

وبما يتعلق بطريقة الكتابة على الجدران، أفاد العزة: “لم تكن الكتابة على الجدران في الانتفاضة الاولى عشوائية، كانت الشعارات مكتوبة يحفظها الشبان بشكلٍ تام، ويضعون خريطة في رأسهم يوزعون الشعارات بناء عليها، مثلا: هناك شعارات طويلة بحاجة لمساحة كبيرة، وشعارٌ بحاجة لأن يُبرز، وعليه كان يتم توزيعها، والاتفاق على مرات تكرارها”.

 

واحتوت الكتابات آنذاك على مقولات أُخذت من الخطابات ومقولات الأدباء الثوريين، واصبحت فيما بعد مرتبطة بالتنظيمات، مثل: “الثورة تحمي أبناءها”، “الارض للسواعد الثورية التي تحررها”، “احذروا الموت الطبيعي ولا تموتوا الا بين زخات الرصاص”، “نموت واقفين ولن نركع” لأبو علي إياد، “المحافظة على القرار الوطني المستقل” وغيرها من الشعارات المأثورة.

“فيسبوك” الهبة الجماهيرية

التطور التكنولوجي الذي افتقرت إليه الإنتفاضة الاولى، ظهرَت ملامحه واضحة في الهبة الجماهيرية، بشكلٍ أعطى الشعب وسائلَ سهلة أُتاحتها لهم القفزة الزمنية، لتستخدمَ الفئات الشعبية المختلفة حائط الـ “فيسبوك” وغيره من مواقع التواصل الإجتماعي، كبديل لصحيفة الجدران الحجرية.

وبينما كانت الفصائل والفئات الشعبية تستصعب الحصول على ادوات طباعة المنشورات والبيانات والشعارات، أو الادوات المستخدمة بالكتابة على الجدران، جاء الـ “فيسبوك” كأداة شبه مجانية، ومنبر جديد للرأي العام، وصار بإمكان الغالبية الكتابة والنشر، بجمل أو منشورات طويلة، أو حتى بكلمة واحدة فقط.

رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين عيسى قراقع، من ناحيته رأى أن الفئات الشعبية لجأت للكتابة على حائط الـ”فيسبوك” لأن الأمر يتعلق بحرية الرأي والتعبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنهم مارسوا الكتابة عليها تعبيراً عن مشاعر الاستنكار لسياسة الاعدام الميداني التي انتهجها جيش الاحتلال على المواطنين، الذين شاركوا بالهبة الجماهيرية بشكل فردي وغير منظم.

تصاعدت أحداث الهبة، وتفاوتت الشعارات ما بين مؤيدة ومعارضة، لكن في رأي أ. العزة فإن الـ”فيسبوك” رغم حماس الشباب، يعتمد على مبادرة فردية وعلى مقدار الثقافة والخبرة التي اكتسبها الشخص بشكل فردي من محيطه ومدى ادراكه لمجريات الاحداث، ولا تعتمد على مقدار ما اكتسبه من البرنامج السياسي الوطني، الذي اعطاه له التنظيم، وليس ملتزما بثقافة التنظيم أو نهجه.

واحتوت منشورات الـ”فيسبوك” على استنكارات مكتوبة، رافقها صور للأحداث، ومقاطع مصورة لها، ليتحول حائط الرأي العام من حائط حجري ثابت، إلى حائط رقمي بـ “صوت وصورة”.

وتغيرت المصطلحات المستخدمة في التعبير، ما بين تعبيرات منطقية، واخرى هجومية، وغيرها حيادية، والبعض منها برسالة والبعض الآخر دون رسالة واضحة، حتى صار الفضاء المتاح للنشر أوسع واقل قدرة على ضبط المنشور فيه.
حتى صار بإمكان الغالبية، التعبير عن أفكارهم بسرعة، من خلال الكتابة على حائط الـ”فيسبوك” دون أن يقلقوا بشأن عُلب الرّش التي قد تنفذُ قبل أن ينهوا كتابة الشعارات على الجدران، أو أن يفكّروا بالحائط الذي سيتسعّ للشعارات الطويلة التي سيكتبونها، ولم تعد هذه الشعارات محدودة بسكان المنطقة، بل اصبحت سريعة الانتشار لنطاق عالميّ أوسع، ولم يعُد الناشرون يحتاجون لوقت لحفظ الشعارات وترتيبها ضمن خطة ذهنية، بل أصبح غالبيتهم يفكرون بالشعار، وينشرونه بسرعة، ينتشر، ويجيء الردّ عليهم سريعا.

الكتابة الإملائية للشعارات

في الانتفاضة الأولى كان المضمون تعبوياً وثورياً، لحشد الجماهير وراء القضية، فكان الشعار يُحفظ حتى بالشكل الاملائي له قبل أن يُكتب على الجدران، ورغم أن المستوى التعليمي في تلك الآونة كان أقلّ من الآن، لكنّ الأخطاء الإملائية كانت أقل من التي نجدها على صفحات الناشرين على الـ”فيسبوك”.

من وجهة نظر أ. نضال العزة فإن “مشكلة الإملاء والمعنى في شعارات الانتفاضة الأولى كانا محلولين لأن الانتماء للتنظيمات كان قويا، فكتابة منشورات على الجدران لإرفاقها بشعار التنظيم كان يُمثّل الانتماءَ له، لذلك لم يكن أي شخص لديه مشكلة بالمعنى أو الاملاء يجرؤ على فعل ما يحتمل الخطأ، لأنه بذلك يقلل من هيبة التنظيم ومصداقيته أمام الشعب”.

ربّما لوحظت المشكلة هذه موجودة لدى الناشرين على الـ “فيسبوك” أو متفاوتة فيما بينهم، لأن بالسابق لم يكن الجميع يكتب، لمعرفة مدى وجود الأخطاء في الإملاء والمعنى، أما اليوم فالجميع يكتُب لذا يظهر التفاوت واضحا بين الكتابات.

وعلّق العزة: “ليس تقليلا من قيمة الجيل الجديد، لكن ربما لإهمال التنظيمات لهم، وتفاوت الوعي بين المرحلتين، ولسهولة الكتابة بفعل التكنولوجيا وسهولة النشر عبرها، ويوجد العديد من الاخطاء الاملائية، والفكريّة أيضا”.

وتابع: “قبل الفيسبوك لاحظنا وجود كتابات على الجدران، مكتوبة بالعامية او اغلاط إملائية، ولم تكن مجرد تغيّرات شكلية، بل عبّرت عن حالة الانفصام بين الجيل الجديد وثقافة الاحزاب، وكيف أن الجيل بدأ يتشرب تغيّر الثقافة، ومصادرها التي باتت أوسع”.

أما أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت جمال غياظة فيرى أن الأخطاء الإملائية كانت موجودة بشعارات الانتفاضة وإن قلّت، بسبب المستوى التعليمي لأهالي القرى والمناطق التي لم يكن التعليم منتشرا فيها، وأنها اليوم أصبحت دارجة أكثر في منشورات الـ”فيسبوك” رغم انتشار التعليم وانخفاض نسب الأمية “هذا تقاربٌ من نوع آخر”.

مضمون الشعارات ومعانيها

كانت الشعارات تعبر عن الفصيل السياسي، وكل فصيل امتاز بشعاراته، فبمجرّد قراءتها على أحد الجدران، مما كانت تحتويه من مصطلحات وعبارات ثورية أو أدبية، أو واحدة من استراتيجيات الفصائل، كان الجمهور على الفور يعرف التنظيم الذي كتبها.

وبما يتعلق بتخوين الأشخاص، ونشر أسماء العملاء، “فقد كانت التنظيمات أكثر التزاما بالقضية، حتى أن الاحتلال وجواسيسه حاولوا استخدام الكتابة على الجدران لصالحهم، ولنشر الفتنة والايقاع بالنشطاء السياسيين وشرفاء القضية، لكن الفصائل كانت قادرة على السيطرة على هذه الكتابات، وسد الثغرات التي كانت تحدث” كما أفاد غياظة لـ معا.

لكن في حائط الـ”فيسبوك” الواسع، لا رادع أمام النشطاء لكتابة عبارات التخوين، من مختلف الفصائل، وباختلاف أساليب التعبير في هذا الفضاء، وباستخدام عبارات الشتم، التي لم تلجأ إليها الفصائل في منشوراتها فترة الإنتفاضة الأولى، لأنه يمكن استغلالها بصفحات مزيفة، وطرح قضايا تنشر الفتنة بين الفصائل داخل الشعب الواحد، والتي كانت السيطرة عليها في الانتفاضة الأولى أكبر.

ورغم أن حالة العداء والصراع ما زالت موجودة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن اختلفت المضامين التي حملتها العبارات، واصبح الـ”فيسبوك” عند البعض، ساحة علنيّة لتبادل الاتهامات والشتائم.
وبما يتعلّق بتغيّر المصطلحات المستخدمة، قال العزّة لـ معا: ” كانت الفصائل تستخدمُ عبارات شاملةٍ بمضمونٍ عميق يُعبّر عن الفكر السياسي، مثلا بالنادر ما كنا نجد شعارا يكتب عن “اليهودية”، لأن الوعي حينها مكّن النشطاء من التفريق ما بين بين الاسرائيلي واليهودي، فلم يكن هناك تحريض على الديانة، لأن حربنا ضد من احتلّنا محاولا انشاء دولة على ارضنا”.

لكنّ نُشطاء الـ “فيسبوك” استخدموا مصطلح “يهود” ومحاربة “اليهودية” حتّى تشتّت الفكرة، واهتزّ المعنى لدى الجيل الجديد.

كيف حاول الاحتلال التصدي للكتابة على الجدران والـ”فيسبوك”؟

على اختلاف المرحلتين، إلا أن الجميع مارس الكتابة، لأن الجميع يحاولُ التعبير عن نفسه، سواء لما انتهجه جيل الإنتفاضة الأولى او ما ينتهجه اليوم جيل الهبة الجماهيرية الحالية، وكلا الطرفين تمت ملاحقتهما من قبل سلطات الاحتلال الاسرائيلي.

واستناداً على هذه القاعدة، حاول الاحتلال، قمع حُرية الرأي والتعبير، من خلال فرض العقوبات على من يكتبون على الجدران أو على الـ “فيسبوك”.

كانت القوى الوطنية تجد صعوبة في الكتابة على الجدران، بسبب ملاحقة الاحتلال لهم، الذي كان يوجه للمواطن الفلسطيني تهما لمجرد كتابة الشعارات الوطنية على الجدران، او توزيع المنشورات وبيانات الفصائل، التي كانت تواجه قمعا واعتقالا وسجنا.

كان سلطات الاحتلال تراقبُ المحلّات الصغيرة التي تبيع علب الرش والدهان والتي كان عددها محدود، وعادة ما يتم الامساك بمقتنيها من قبل الاحتلال بسبب مراقبته على أماكن بيعها، وتضع كمائنها على مداخل القرى والمدن والمخيّمات، وتحاولُ الايقاع بالذين يكتبون على الجدران في الانتفاضة الاولى، ما جعلهم يكتبون سرا وليلا في غالب الوقت.

وكان الاحتلال بمجرد أن يجد أيا من أدوات الدهان، كعلبة دهان او فرشاة دهان في بيت أحد المواطنين، يأخذها دليلا لإدانته، وكان هناك العديد من التشديدات والحصار وابتدع الاحتلال اساليبا كبيرة لزج أكبر عدد من المواطنين داخل السجن.

وبما يتعلّق بالعقوبة، قال قراقع لـ معا: “استخدمت سلطات الاحتلال سياسة القمع، والعقوبات الجماعية، فكانوا يخرجون أهل البلدة التي يجدون على جدرانها شعارات، من منازلهم قرابة النصف ساعة، ويقومون بدهن الجدران بـ”الشيد” الدهان الأبيض لإزالتها، أو يجبرون الأهالي على طلائها، كما استخدموا سياسة الاقامة الجبرية في المنزل، والنفي لمنطقة أخرى، أو عقوبات بالسجن تصل إلى ستة أشهر”.

وتابع: “التهمة عادة ما كانت تكون: الكتابة على الجدران، الانخراط في التنظيمات السياسية غير الشرعية، والتحريض، والتخريب، وتهديد ما يدعى بـ أمن الدولة”.

وحاول الاحتلال قمع حرّيات الناشرين على الـ”فيسبوك” في الهبة الجماهيرية وما قبلها، فمنذ بداية تشرين أول لعام 2015 حتى بداية العام الحالي، فقد اعتقل ما يزيد عن 138 فلسطينيا بسبب منشوراتهم على الـ”فيسبوك” ويتم اصدار اوامر اعتقال لغالبيتهم من 3- 6 أشهر.

وأفاد قراقع لـ معا “انتشرت ظاهرة الاعتقال لمجرد الاشتباه، حيث سن الكنيست قانونا يسمح باعتقال أي فلسطيني بدون دلائل وبدون شهود، لمجرد تكهنات إسرائيلية، بأن هذا الفلسطيني لديه قابلية لعمل أي شيء مستقبلي، أو أنه ينوي ويفكر بعمل شيءٍ يستدعي زجه بالسجن”.

اختلفت الثقافة والمضامين وأساليب التعبير وحائط الرأي العام بين مرحلتي الانتفاضة الأولى والهبة الجماهيرية الحالية، لكن الاحتلال استمر باستخدام أساليبه لقمع حرية الرأي والتعبير التي يحاول الشعب الفلسطيني ممارستها جيلا بعد جيل.

تقرير: ياسمين الأزرق

 

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً