ثلاثمائة عام من الحنين

2016/07/27
Updated 2016/07/27 at 10:08 صباحًا

p25_20160725_pic2

 

“الحب لا يفنى ولا يُستحدث من العدم”. هذا أهم قوانين ودروس مادة “فيزياء الحب” لدى رشا.. هل بالإمكان أن تنال جائزة نوبل على اكتشافها هذا؟

■ ■ ■

قالت لي حبيبتي في المخيم ذات يوم: “ريتك بتحبني زي ما رشا بتحب جوزها سليم!”.
قلتُ لها: “لو كنتي زيها لحاربت عشانك الإنس والجن سوا”!

■ ■ ■

عندما تمر أمام الجميع كانوا يفسحون الطريق بإجلال وكأنهم أمام قديسة. تمضي أمام الجميع مانحة إياهم ابتسامة ناصعة تليق بملاك أو ولي فيما كان رأسها عالياً كأنه سيمسّ السماء بعد قليل. وفي عينيها حزن يكفي أمة مكلومة. لكنها لا تئن ولا تشتكي. الارتباط ليس مجرد “وثائق رسمية”. إنه شيء يجمع روحين معاً إلى أن تصبحا روحاً واحدة قُسمت بين جسدين دون بقية الأجساد في الأرض.

■ ■ ■

كانت نساء مخيمنا تعرف قصتها بالتفصيل. قالت هي لأمي ما حدث معها ذلك اليوم: قاعة الزيارة في السجن الإسرائيلي، المليئة بالحر والذباب اللجوج والآمال والآلام والحراس الأجلاف والأهالي من أطفال ونساء ومن تقدم به العمر ملياً. شبك حديدي بينهما. هل يمنع الحديد والجيش وعيون “الشاباك” (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي) روحي حبيبين من اللقاء وقتما أرادتا؟
كانت عيناه ثابتتين في الأرض. تنفسه أشبه بتنفس نمر جريح. قال لها هو في أول زيارة جمعت بينهما بعد صدور الحكم عليه بالسجن لثلاثمائة عام: ” تلاتميت (ثلاثمائة) سنة هدول يا رشا. تلاتميت سنة. أنا بديش أكون أناني وأربطك معي..”. لماذا بدت في أذنها نبرات صوته مرتجفة بعدها؟ لقد كان يقول “صدقيني لو طلبتي الطلاق ما راح أمنعك أو حتى ألومك، إنتي لساتك صبية حلوة، عمرها عشرين سنة، وألف من يتمناكي، واحنا ما تجوزنا إلا ست شهور يا دوب، والله ما أطعمنا الخلفة (لم يرزقنا بالذرية). أنا صرلي سنة بالسجن هلقيت وانتي أكيد حسيتي بوجع الوِحدة”. عاد ليُكمل مهمته في تخييرها: ” العمر بيمشي يا رشا: بتقدري انتي تتجوزي هلقيت وتخلفي وتعيشي حياتك. انتي إنسانة رائعة وما فيه زيك. الله يسعدك وين ما كنتي يا رب”.
قالت له بهدوء: “خلصت كلامك؟”. أومأ لها إيجاباً ثم خفض رأسه وعانقت يده اليد الأخرى كأنما أرادت أن تواسيها. أن تجعله متماسكاً أكثر. التصقت عيناه بالأرض. بدا وقتها عاجزاً حتى أن يتحدث أكثر من ذلك. “ارفع راسك” قالت له. رفعه ببطء. “حُط ايدك مكان ايدي بالضبط. على هاد الشبك الحديدي”. قالت له بعدها “لساتك بتحبني؟”. دمعتان ساخنتان كانتا الجواب. ارتفع صراخ أحد الحراس بالعبرية: “انتهى وقت الزيارة”! مرت الدقائق سريعاً كأنها لم تكن. خرجت منها كلمتان فقط قلبتا حياتيهما إلى الأبد: “راح أستناك”. ثم مضت بمشيتها المُعتدَّة مشرقة كأنها الشمس.

■ ■ ■

عندما علم والدها بوعدها له، قال مستنكراً: “البنت انجنت!”. حتى أمها لم تساندها. صحيح أن العديد من زوجات الأسرى قررن عدم الطلاق من أزواجهن، حتى من حظوا بـ”مؤبدات” (الحكم المؤبد لدى دولة الاحتلال 99 عاماً) من أجل تربية أطفالهن، إلا أن هنالك زوجات أخريات، لديهن أبناء من أزواجهن، وقد حصلن على الطلاق بسبب الأحكام العالية التي ابتلي بها هؤلاء الأزواج، فما بالك بفتاة في أوج جمالها وتألقها، والتي كانت عيون فتيات المخيم ونسائه تفيض بالغيرة كلما رأينها، وتستطيع الزواج بخيرة شباب قطاع غزة إن أرادت، حتى وهي مطلقة؟
لكن رشا رفضت! كان العرسان يأتونها تباعاً ومن أرقى الطبقات وأغناها. قالت لأهلها بحزم باتر: “ما فيه زلمة راح يمسني غير سليم جوزي”.
حاول والدها الضغط عليها. حاولت أمها كذلك. حاول الأعمام والأخوال والعمات والخالات. لا جدوى. جن أبوها. صاح بها ذات يوم ووصلت كلماته إلى مسامع المخيم كله:”ولك ليش انتي متسمكة فيه؟! مش فاهم! لو فيه بيناتكو أولاد وخلفة كان قلنا ماشي. فيه عذر. بدها تربي أولادها. لو انتي كبيرة في العمر والا بشعة بأقول ماشي. ولك أجاكي عرسان شباب زي الورد: اشي مهندس واشي دكتور واشي من كبارات البلد واشي الله منعم عليه ومتفضل بالغنى. أي بنت في المخيم بتتمنى تاخد واحد منهم. وانتي ماسكالي بسليم كإنو الله ما خلق غيرو!”. لم تجبه هي إلا بنظراتها الصامتة الرهيبة.
منعوا عنها الخروج من البيت. لم تبالِ. بقيت في البيت شهوراً متواصلة دون أن تتمكن فعلياً من تجاوز عتبة باب أهلها. يئسوا أخيراً. قالت أمها “الله وكيلكم راسها يابس زي الحجر الصوان. أنا عارفة ياختي لمين طالعة ها البنت؟!”.

■ ■ ■

من قال بأنها ليست سجينة هي الأخرى؟ أربع وعشرون مرة تعاقبت عليها فصول السنة الأربعة كحراس السجن، كل منهم يسلم نوبة حراسته لمن بعده. الزمن يجلدها بسوطه اللاسع وتنهال عليها المحن متتابعة دونما رأفة، فيما هي تُمَني نفسها بأن تتهاوى قضبان سجنه وأن يأتيها معانقاً. أنها ستستعيد حياتها الطبيعية معه بل وسيرزقان بالأطفال أيضاً! كانت تتخيل نفسها حاملاً وأنها بانتظار مولود ما. تسأل ذاتها: “لو أجا ولد ايش راح أسميه؟ طيب: ولو أجت بنت؟”.

■ ■ ■

الحب يغير كل شيء: يصبح المر حلواً في سبيل الحبيب، كما يصبح الحلو مراً بسبب بُعده! في كل يوم، كانت روحاهما تذوبان أكثر معاً. قالت لأمي: “ما بيغيب سليم عني أبداً. الساعة ستة الصبح بأقول: هلقيت السجانين بيدخلوا عشان يعدوا الأسرى في زنزانته. هلقيت قاعد بيقرأ. هلقيت أجا معاد الغدا. هلقيت بيعدوا فيهم كمان مرة. هلقيت قاعد بيحكي مع ياسر- صاحبه اللي معاه في نفس الزنزانة. يمكن بيتقاتل مع رمزي. الله يسامحك يا رمزي قديش “نرفوز” وعصبي وروحك في مناخيرك! بس يلا: عدهم تصالحو. صار خير. هلقيت معاد العشا. أحمد وفايق بيمثلو قدامهم مقطع من “مدرسة المشاغبين” أو “شاهد ما شفش حاجة”. حتى في نص الليل بالاقي حالي صحيت وبأقول: هياتو بيفكر فيي. ولما أزوره، بيقوللي إنو ساعتها فعلاً كان صاحي وبيفكر فيي!!”.

■ ■ ■

هل تعرف ما هي الثروة التي تتمنى كل امرأة دوامها؟ إنها الشباب والجمال. وقد تركتهما رشا يذويان ويذبلان من أجل عيون زوجها سليم. أربعة وعشرون عاماً تتابع كل واحد منها كأنه عُمرٌ بأكمله، لتكبر معها أسطورة رشا وسليم في مخيمنا: كبرنا ونحن نعايش هذه الأسطورة يوماً بيوم. استسلم أهلها لإرادتها منذ زمن بعيد وتركوها تفعل ما تريده. أكملت دراستها في تخصصين، وراحت تعمل في مجال التدريس. بعد عملية أسر “جلعاد شاليط”، كانت قابلت أمي ذات مرة، لتسألها في رجاء “ابنك الوسطاني يا أم محمد مش بيشتغل صحفي؟ اسأليه بالله لو فيه صفقة تبادل أسرى قريبة والا لأ!”. كان تواصلها الدائم مع زوجها عبر الهاتف المحمول، في ظل منع الزيارات لأهالي أسرى قطاع غزة على مدى سنوات طوال، بعد أحداث الانقسام عام 2007.
ذات يوم، جاء من يخبرها بأن اسم زوجها موجود في قائمة الأسرى الذين سيفرج عنهم في إطار الصفقة. صرخت فرحة: “ياما انتا كريم يا رب! هانت يا سليم”! وبدأت تتابع كل خبر أو همسة أو حتى إشاعة عن الصفقة: جاء وسيط ما. ذهب وسيط ما. اختلفوا. اتفقوا. اختلفوا من جديد. هنالك وسيط ألماني. مباحثات جديدة. اعتراض إسرائيلي على بعض الأسماء. تعبت من مباراة “البنغ بونغ” هذه. قالت: “خليهم يتقاتلوا براحتهم. بس يخلصوا يخبرونا ايش بيصير. زهقت والله”!
جاءت ليلة حملت مفاجأتين معاً: خبر تحديد الموعد النهائي لإتمام الصفقة، وعدم كون سليم ضمن قائمة الأسرى المحررين فيها! كان للحزن ظل حالك السواد على مخيمنا في تلك الليلة التي بدا وكأن الشمس لن تشرق بعدها. تحاملت رشا على جراحها وقررت أن تفرح مع بقية أهالي الأسرى وأن تستقبلهم، وإن كان ألمها يشويها شيَّاً. بعد العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014. قالت لي بعينين يضيئهما الأمل: “مش بيقولوا إنو فيه أسرى معنا؟ معناها: سليم بإذن الله المرة هادي طالع ع الأكيد إن الله أراد!”.

الاخبار اللبنانية

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً