رحلة البحث عن المعنى من الكتابة إلى القراءة «جدل التخييل والمخيال في الرواية الجزائرية» لسيدي محمد بن مالك

2016/12/14
Updated 2016/12/14 at 10:36 صباحًا

13j296

الرباط ـ «القدس العربي» ـ من الطاهر الطويل: يضطلع التخييل السردي عامة، والتخييل الروائي على نحو خاص، بإنتاج مخيال نصي مغاير للمخيال المرجعي، يتأسس على إدراك خاص للوجود، لا يكون بالضرورة انعكاسا لإدراك المجتمع أو الجماعة أو النخبة. فإذا كان التخييل، بوصفه كونا مصطنعا ينطوي على حكاية وخطاب وسرد، ينصرف إلى محاكاة الواقع ومشاكلة الحقيقية (بتعبير رولان بارت)، فإن تلك المحاكاة أو المشاكلة ينبغي لها أن تتجاوز موضوعية ذلك الواقع وحرفيته، بصياغة صور ورموز وعلامات غير تلك التي يصوغها المخيال في محاولته إدراك الوجود وتصنيف الموجودات، سواء أكان مخيالا إنسانيا أم ثقافيا، دينيا أم سياسيا، شعبيا أم نخبويا.
ينطلق الباحث الجامعي الجزائري سيدي محمد بن مالك من هذه المسلّمة في مقاربته لجدل التخييل والمخيال، في تشكيل المعنى المحتمل في خمس روايات جزائرية هي: «نهاية الأمس» لعبد الحميد بن هدوقة، و»طيور في الظهيرة» لمرزاق بقطاش، و»قرة العين» لجيلالي خلاص، و»الرعشة» و»الملكة» لأمين الزاوي. ويوضح الباحث المذكور أن المعنى ليس خلاصة الجدل القائم بين التخييل والمخيال المنصهرين في استراتيجية الكتابة حسب، بل هو مرهون أيضا باستراتيجية القراءة أيضا.
يخصص الكاتب بن مالك المبحث الأول من كتابه الصادر عن دار «ميم» للنشر في الجزائر، لحضور موضوع الثورة الجزائرية بين التخييل والإيديولوجيا في الرواية، من خلال الوقوف عند تجربتي عبد الحميد بن هدوقة ومررزاق بقطاش، فيسجل أن الأول في روايته «نهاية الأمس» يتوسل لتشخيص الثورة والدفاع عنها والتنبيه إلى خطر الإيديولوجيات الأخرى التي ترمي إلى تقويض أركان الدولة الجديدة. لغة سهلة لا تتطلب إعمالا للذهن من أجل فهم معانيها العميقة، وحبكة بسيطة لا تستغلق على القارئ إذا ما جرب ترتيب مادتها الحدثية، وأسلوبا في السرد يعتمد على التسلسل الذي نلفيه في الحكاية مع توظيف اللواحق، في بعض الأحيان، لإلقاء الضوء على ماضي الشخصيات الرئيسة واستعمال ضمير الغائب الدال على حضور ذات شاهدة على الأحداث وعليمة بأفكار الشخصيات ونواياها وأفعالها.
وبخلاف أغلب الروايات الجزائرية التي تؤرخ لحدث الثورة التحريرية من خلال الإشارات العابرة والومضات السريعة، تكاد رواية «طيور في الظهيرة» لمرزاق بقطاش تنفرد بالحديث عن آنية الفعل الثوري التحرري، من خلال الطفل مراد الذي يطوعه الكاتب تطويعا إيديولوجيا لا يخرج عن دائرة ما وقر في عقله وقلبه من التزام بالدين وحب الوطن، حيث يتضافر الإسلام والوطنية، وهما عاملان متأصلان في الإنسان الجزائري، في تأليف نظرة بقطاش للثورة التي يعكف على تشخيصها في باكورة أعماله الأدبية. ويجعل الكاتب انطباع الطفل عن الثورة نابعا من إحساسه بالاختلاف بين ثقافة الإنسان الجزائري وثقافة الإنسان الأوروبي، فالثورة ـ في نظر الكاتب ـ لم تكن تستند في بداياتها إلى إيديولوجية بعينها، وإنما كانت تركن إلى إيمان الإنسان الجزائري بوطنيته وعروبته وإسلامه واعتزازه بها جميعا.
بعد ذلك، ينتقل مؤلف الباحث بن مالك لتحليل الفضاء والنسق الثقافي في رواية «الرعشة» لأمين الزاوي، فيلاحظ أن هذا الأخير حين يُجري أحداث روايته في فضاءات متعددة ومتباينة، فهو لا يريد أن يطابق التمثلات الثقافية التي يصوغها المخيال للمكان، بل يروم استحداث صور ورموز وعلامات مغايرة، تقترن بإدراكه الخاص للفضاء، إنه يريد فضاء عامرا بقيم ثقافية غير تلك التي ألفها الناس في الواقع.
ثم يخصص المؤلف مبحثا للاستراتيجية الوصفية المعتمدة في رواية «قرة العين» لجيلالي خلاص، مشيرا إلى أن الواصف يسهب تارة في وصف تفاصيل الجسد وجزئياته، ويوجز في وصف أغوار النفس ومكوناتها، وتارة أخرى يستغني بإيحاءات النفس عن حقيقة الجسد وما يصدر عنه من أفعال. وإذا ما قام بوصف المكان، فإنه عادة ما يقرنه بالشخصية ليوحي (المكان) بتصنيفها الاجتماعي وليشهد على إيديولوجيتها وأعمالها. ولأن رواية «قرة العين» نص واقعي بامتياز، فإن تعليمية الوصف تفرض حضورها من خلال رغبة الواصف في إطلاع المتلقي على النسق الثقافي الذي يمد المقاطع الوصفية بـ»ماء الحياة» ويميزها، في الآن نفسه، عن المقاطع السردية النابعة من التخييل الذي يجسد ذهنية الإنسان وتصوره للعالم.
ويفرد الكاتب المقاربة الأخيرة في كتابه لرواية «الملكة» لأمين الزاوي، حيث يشير إلى أن هذا النص ينفتح على الآخر غير الغربي الذي يختلف عن الأنا في شؤون حياته وفي تفكيره وعواطفه وطقوسه، إنه الآخر الصيني الذي يضطرب بين المركزية والهامشية، فهو مركز بتاريخه وتكنولوجيته وحبه للعمل، وهامش ببداوته وهمجيته في نظر الأنا. ولكن الزاوي لا يكتفي بالانفتاح على صوت الآخر الغريب والمثير والمدهش، بل ينفتح على صوت الآخر المتواري داخل الأنا كذلك، الذي لا يقل غرابة وإدهاشا هو أيضا.
ومن ثم، يبرر الزاوي عبر تعدد الأصوات المتضمن للتعدد الثقافي، مجموع رؤى العالم في المجتمع وكذلك رؤيته للأنا والآخر وأفكاره عن الهوية والحرية والمرأة واللغة والسياسة والدين والجنس جماليًا.

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً