قبل يونسكو وبعدها: فلسطين تتحرر من الخطاب التوراتي

2016/10/19
Updated 2016/10/19 at 10:25 صباحًا

349
يضيف قرار “مجلس يونسكو التنفيذي” الأخير في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري لمعة تبدّد شيئاً من الظلمة التي أحاط بها الخطاب الصهيوني/ التوراتي مدينة القدس ومسجدها وما يحيط به من أبواب وساحات في العقلية الغربية، وبعض من العقليات العربية، إلا أن هذه الإضاءة تظلّ قاصرة عن الإحاطة بالصورة الأكبر؛ صورة التاريخ الفلسطيني في الماضي والحاضر، وصورة الأرض الفلسطينية كلّها وليس القدس والمسجد الأقصى فقط، التي لا علاقة لها بقطعان المستعمرين الذين احتلّوها قادمين من شتى الجنسيات؛ بولندية ولاتفية وبريطانية وصينية وكردية.. ومغربية.. إلى آخر هذا الحشد.
ويبدو لنا أن توجيه النظر، سواء بنفي علاقة اليهود بالقدس ومسجدها، كما جاء في قرار “يونسكو” الذي لم يضف جديداً إلى حقيقة تاريخية مثبتة في الدراسات التي حرّرت تاريخ فلسطين من القبضة اللاهوتية الصهيونية حتى في أوساط أكاديمية غربية، أو بإثبات علاقة مبهمة لا أساس مادياً لها، كما جاء على لسان مديرة “يونسكو” إيرينا بوكوفا، إنما هو تهرّب من الطابع الاستعماري ذي الصبغة السياسية لا الدينية الذي يحاول طبع القدس وفلسطين بطابع زائف عنوانه “إسرائيل”، وهويّة منتحلة أكثر زيفاً عنوانها “شعب إسرائيل”.
لقد تمّ نفي الصفة التاريخية عن المستند الذي يستند إليه الغرب الاستعماري، والكيان الذي أنشأه على الأرض الفلسطينية، ونعني التوراة وما اخترعوا على هوامشها من تلفيقات باسم علم آثار أطلقوا عليه تسمية “علم الآثار التوراتي”، وبدأ ينظر إليها في أوساط الباحثين المتجرّدين من اللوثة الاستعمارية، على أنها نص أدبي يجمع قصصاً لم تكن تاريخاً بقدر ما كانت تجميعاً لقصص شعبي يعبّر عن رؤية إلى العالم قديمة لا تمّت بصلة للعالم الواقعي. ويحضر في الذهن عملان بارزان ساهما في تنقية تاريخ فلسطين وتحريره من تاريخ مصطنع فرضه الخطاب التوراتي؛ الأول هو بحث الأستاذ البريطاني كيث وايتلام والثاني بحث الأستاذ الأميركي توماس تومبسون، على سبيل المثال لا الحصر.
يشرح الأول في كتابه “اختراع إسرائيل قديمة وإخراس التاريخ الفلسطيني” (1996)، كيف اخترع الباحثون الغربيون “إسرائيل قديمة” على قياس وصورة دول المدن الأوروبية تحت تأثير إقامة مستعمرة ألصقت بنفسها اسم “إسرائيل”. ويسلّط الضوء على الافتراضات اللاهوتية والسياسية التي شكّلت وصمّمت البحث في “إسرائيل قديمة” على يد هؤلاء الباحثين التوراتيين، نشأة وتكويناً. وهي الافتراضات التي ساهمت في إنشاء شبكة مجال دراسي واسع حدّده إدوارد سعيد تحت اسم “خطاب الاستشراق”. وبهذا الخطاب ساهم التوراتيون في اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم ومن تاريخهم على حد سواء.
ويشرح توماس تومبسون في كتابه “التوراة في التاريخ: كيف يختلق الكتّابُ ماضياً” (1999) كيف تمّ في العقدين الأخيرين من القرن العشرين تحدّي الصور التي رسمها علماء آثار ومؤرّخون وباحثون توراتيون لفلسطين وتاريخها على أساس معتقدهم بأن قصص التوراة تصف أحداثاً تاريخية واقعية، وأصبح محالاً اليوم تأييد قصص التوراة هذه، أو إخفاء التزوير والتحريف اللذين اضطر هؤلاء التوراتيون إلى ارتكابهما للبرهنة على أن هذا النص الديني هو “تاريخ” أيضاً.
وجاء هذا التزوير والتلفيق والتحريف بعد أكثر من قرن من التنقيب في الأرض الفلسطينية بلا نتيجة أو أثر مادي يؤيد مزاعم المستعمرين الغربيين ومستعمرتهم على أرض فلسطين، وتكاثر تفنيد ودحض افتراضات وخرائط وأسماء أطلقوها على المعالم الفلسطينية. وانتبه علماء آثار جادّون من أمثال الإيرلندي ماكآلستر (1925) إلى انتفاء أي صلة بين المعالم الفلسطينية، سواء كانت القديمة أو المعاصرة، بقصص التوراة. ونعتقد أن سبب اللجوء إلى التزوير والتلفيق وتحريف نصوص مكتشفة، إضافة إلى اليأس من العثور على آثار مادية بعد أكثر من قرن ونصف من الحفريات، سببه أن وجود ما تسمى “إسرائيل” لم يكن سوى إنشاء أساسه قصص وأساطير لا شواخص مادية ماثلة على وجه الأرض، كما هو شأن وجود العرب أو اليونان أو الهند أو الصين.
وإلا فبماذا نفسّر التلفيق الذي لجأ إليه رئيس “بعثة فيلادلفيا” حين زعم أنه قرأ على مسلّة مصرية مكتشفة في بيسان عام 1923، أن الملك رمسيس الثاني استخدم “الإسرائيليين” في بناء عاصمة ملكه، ثم يُكتشف بعد ذلك أن النقش يتحدث عن قبائل العامو والشاشو التي قدمت فروض الولاء للملك؟
وبماذا نفسر لجوء “عالم” آثار مثل الأميركي وليم أولبرايت (1891- 1971)، أحد أبرز المتصهينين الذين كرّسوا بحوثهم لإثبات مرويات “العهد القديم”، إلى إضافته عبارة إلى كسرة فخارية مكتشفة في تل الدوير، افترض أنها لاخيش التوراتية، تُخبر عن “سقوط أورشليم”، ليبرهن على وجود هذه الـ “أورشليم” على أرض فلسطين، وينشر تلفيقه هذا في مقال عام 1941، ثم يظلّ في الكتب الدراسية حتى بعد الكشف عن أنه إضافة ملفقة؟
جيّدّ أن تؤكّد “يونسكو” على فلسطينية الأماكن في القدس، وتحاول محو ما يلصقه بها الصهاينة من مسمّيات، وجيّد أن تعترف بأن القدس مدينة محتلّة، ولكن فلسطين كلها لا ينبغي أن تغيب عن ذاكرة من قدّموا المشروع ومن وافقوا عليه، لأن القضية ليس نسبة هذا المكان إلى هذه الديانة أو تلك، بل هي قضية مستعمرة قامت على تدمير شعب ومحو وجوده من التاريخ الراهن والتاريخ الماضي، وإحلال وجود وتاريخ مصطنعين لتجمع لا تربطه بفلسطين أي صلة مهما كان من شأن معتقداته.
العربي الجديد

Share this Article
Leave a comment

اترك تعليقاً