الايام -كتبت بديعة زيدان:يُعد كتاب “دم نازح في الممر” للكاتبة والشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة، الصادر حديثاً عن منشورات المتوسط في إيطاليا، وثيقة إنسانية وأدبية فارقة، تخرج من قلب الجحيم لتوثق يوميات النزوح والحرب في غزة (أكتوبر/نوفمبر 2023)، فهو ليس مجرد سرد للأحداث، بل تشريح دقيق للنفس البشرية تحت القصف، ومحاولة لترميم الذاكرة التي يحاول الاحتلال محوها.
ينقسم الكتاب إلى مقدمة سردية تروي قصة العودة، ثم متن أساسي يتكون من 23 رسالة موجهة إلى ابنة أخيها “لمار” في بلجيكا، وخاتمة تروي تفاصيل النزوح القسري إلى الجنوب.
يبدأ الكتاب بمفارقة تراجيدية، فالكاتبة عادت إلى غزة بعد 15 عاماً من الاغتراب في بلجيكا بحثاً عن “التعافي” من الإرهاق النفسي، ولزيارة قبر شقيقها “رياض”، لكنها بدلاً من أن تجد السكينة، وجدت نفسها في قلب حرب إبادة، فتحوّل هدف الرحلة من ترميم الروح بلقاء العائلة وشجرة الجميز، إلى صراع بدائي من أجل البقاء في ممرات مستشفى القدس.
العنوان “دم نازح في الممر” يحمل دلالة مكانية ونفسية عميقة، فـ”الممر” في مستشفى القدس لم يعد مجرد مساحة للعبور، بل تحول إلى “بيت” ووطن مؤقت.
استعرضت الغرة كيف تحولت تفاصيل الحياة اليومية في هذا الممر إلى ملاحم صغيرة، بدءاً من الطعام، بحيث تحول الفلفل الأحمر وفتة العدس إلى رموز للحياة ومقاومة الموت، مروراً بالجسد المستباح، فالكاتبة ركزت بجرأة على انعدام الخصوصية، خاصة للنساء، حيث يصبح الدخول إلى الحمام “رحلة عذاب” وانتهاكاً للكرامة الإنسانية، علاوة على الوصف الدقيق للنوم في وضعية “القرفصاء” أو “الجنين” للحماية من القصف.
لم تتعامل النصوص مع الموت كحدث مجرد، بل كواقع يومي، فيما بلغت المأساة ذروتها في استشهاد ابن عمها “أحمد”، الشاب الوسيم الضاحك، الذي قنصه الاحتلال وهو يبحث عن القهوة.. هذا الحدث نقل السرد من التوثيق العام إلى الرثاء الشخصي الموجع.
استخدمت الغرة أدواتها كشاعرة وصحافية لنسج نص هجين يجمع بين التقرير الواقعي والبوح الشعري، منحازة إلى تقنية الرسائل (أدب التراسل)، وهذا الاختيار الفني حقق عدة أهداف، من بينها: التوثيق للجيل القادم، فـ”لمار” تمثل الجيل الذي يعيش في الشتات، والكتابة لها هي محاولة لربطها بجذورها وتوريثها الذاكرة، وكذلك الحميمية، عبر صيغة “يا حبيبتي يا لمار”، التي كسرت حدة التقرير الصحافي وجعلت النص دافئاً، شخصياً، ومؤثراً، ما يسمح للقارئ بالتلصص على حديث عائلي حميم، بالإضافة إلى تفكيك المعقد، فمخاطبة طفلة/ مراهقة تطلبت من صاحبة “دم نازح في الممر”، شرح المشاعر المعقدة والمشاهد القاسية بلغة بسيطة ولكن عميقة.
تميز الكتاب بقدرة عالية على نقل “الروائح” و”الأصوات”، فالقارئ لا يقرأ فقط، بل يشم رائحة “الخبز الطازج” المختلطة برائحة “الدم”، ويسمع صوت القصف الذي يشبه “إغلاق بوابات إسمنتية ببالغ العنف”.
ولجأت الكاتبة إلى السخرية كآلية دفاعية، ونرى ذلك في وصفها لجارتها بلقب “النينجا” لسرعة حركتها، أو الحديث عن “القمل” الذي غزا شعرها كأنه مزحة طفولية قديمة تعود للحياة .. هذا الأسلوب أضفى واقعية مذهلة وأبعد النص عن البكائيات التقليدية.
ورغم شاعرية اللغة، لم تغفل الكاتبة الحس الصحافي، حيث وثقت تواريخ النزوح، وأسماء الشهداء (أحمد، يوسف، جميلة)، وتفاصيل الحياة اللوجستية (المياه، الكهرباء، الاتصالات)، ما يجعل الكتاب وثيقة تاريخية.
من أهم رسائل الكتاب “أنسنة” الغزيين.. الكاتبة ترفض وصفهم بالأبطال الخارقين الذين لا يخافون، هي تعترف صراحة بخوفها: “أخاف يا لمار ولا أدعي بطولة ولا أسطرة”، وتؤكد أنهم بشر يحبون الحياة، يخافون، يمرضون، ويشتهون سيجارة أو فنجان قهوة.
الكتاب صرخة في وجه محاولات المحو، فمن خلال الحديث عن “موسم الفلفل الأحمر” و”شجرة الجميز”، تؤكد الكاتبة أن غزة ليست مجرد بقعة جغرافية، بل ذاكرة ثقافية وهوية لا يمكن اقتلاعها، هو الذي اشتمل على رسالة عتاب وغضب مبطن تجاه العالم الذي يراقب “الإبادة” عبر الشاشات، حيث تتساءل الكاتبة بمرارة عن جدوى القوانين الدولية وحقوق الإنسان التي تسقط عند حدود غزة.
وما يميز الكتاب الصدق الفني والواقعي، فقد كُتب تحت النار، ليس فيه تنميق لغوي زائد، فالجمل تخرج لاهثة تشبه إيقاع الحرب، وكون الكاتبة عاشت في بلجيكا طويلاً ثم عادت، منحها ذلك قدرة فريدة على الرصد، فهي ترى غزة بعين “الداخل” (ابنة البلد) وعين “الخارج” (التي تقارن وتلاحظ التغيرات)، كما أنها تقدّم فيه صوتاً نسوياً واضحاً للحرب، يركز على معاناة النساء (الحجاب، الدورة الشهرية، العناية بالأطفال، انعدام الخصوصية)/ وهو جانب غالباً ما يتم تهميشه في أدب الحروب.
في بعض المواضع، تكرر وصف مشاعر الخوف أو تفاصيل الحياة اليومية (مثل أزمة الحمام) بشكل قد يبدو رتيباً، وإن كان هذا التكرار يعكس رتابة وطول أيام الحرب والحصار.
انتهى الكتاب بمشهد النزوح إلى الجنوب وركوب الشاحنة، وهنا قد يشعر القارئ برغبة في معرفة مصير الشخصيات بعد ذلك (ماذا حدث في رفح؟ كيف خرجت الكاتبة؟)، لكن هذا البتر يعكس طبيعة الحرب التي لا تمنح نهايات واضحة.
كتاب “دم نازح في الممر”، هو تخطيط دماغ لامرأة وشعب تحت القصف، فقد نجحت فاتنة الغرة في تحويل “الممر” الضيق في المستشفى إلى مسرح واسع يعرض تراجيديا الإنسان الفلسطيني.. إنه كتاب لا يُقرأ فقط، بل يُعاش، ويترك في النفس ندبة لا تزول.





