بقلم: عاموس هرئيل /بعد مرور أكثر من شهر على وقف إطلاق النار، الذي أنهى الحرب في قطاع غزة، ظاهرياً، يبدو الوضع الإقليمي لإسرائيل أشبه بمكتب حاسوب بقيت كل نوافذه مفتوحة؛ فعلى الرغم من التسوية التي فرضها رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، على إسرائيل و”حماس”، وعلى الرغم من الإنجازات العسكرية الواضحة في جبهات أُخرى، فإنه لم يُحسَم شيء فعلياً.
لم تُترجَم النجاحات العسكرية إلى تسويات سياسية مُلزمة. فبعد الكم الهائل من الذخائر التي أطلقتها وأسقطتها إسرائيل على المنطقة، بقيت مشكلاتها الاستراتيجية، في معظمها، على حالها؛ فالطابع المتقلب والمتناقض للسياسة الخارجية الأميركية، والاعتبارات السياسية لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وخشيته ممّا قد يُعتبر تنازلات، أو ضعفاً من جهة اليمين، أمور كلها تجعل حل المشاكل المتأججة أمراً صعباً. فحالة عدم اليقين واللااستقرار عميقة في كل مكان، إلى جانب تراجُع ملحوظ في نفوذ إسرائيل على السياسة الأميركية في المنطقة.
ويتمثل العامل الرئيسي الكابح في الخوف المشترك لكل اللاعبين في الشرق الأوسط من ردات أفعال ترامب. فالجميع – حتى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي استُقبل، هذا الأسبوع، في البيت الأبيض استقبال الملوك – يفضلون السير على رؤوس أصابعهم عندما يكونون بالقرب من ترامب. حتى إن قطر وتركيا، وهما المستفيدتان الرئيستان من خطوات ترامب في الأشهر الأخيرة، تحاولان عدم إغضابه.
المشكلة أن الإدارة الأميركية نفسها ما زالت في حالة فوضى بنيوية، وتتأرجح وفق ميول ونزوات ترامب الذي تتجلى قوته في الشرق الأوسط، بعكس استسلامه أمام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ويفوق نفوذه في المنطقة كل ما حققه سلفه، جو بايدن، لكن الأميركيين يواجهون سلسلة من المشكلات المستمرة، ويبدو أن الإدارة لا تملك خطة واضحة للتخلص منها.
لبنان في مركز الاهتمام
“قبل أشهر، اعتُبرت الساحة اللبنانية قصة نجاح إسرائيلية – أميركية؛ فخلافاً لهجوم “حماس” في 7 تشرين الأول على غلاف غزة، كانت إسرائيل هي المبادِرة في الشمال، بينما أخطأ “حزب الله” تماماً في قراءة نياتها، والنتيجة كانت فشلاً عسكرياً كبيراً للحزب. وفي الفترة الواقعة بين تموز وتشرين الأول 2024، تمت تصفية قيادة الحزب، في معظمها، وعلى رأسها الأمين العام، حسن نصر الله، ولم ينجح مَن خلفه، نائبه نعيم قاسم، الذي يُعتبر شخصية باهتة، في ملء مكان الزعيم؛ كذلك تضررت القدرات العسكرية للحزب بصورة كبيرة، وأكثر من ذلك؛ بدت الحكومة والجيش في بيروت، بقيادة جديدة، وبدفع أميركي، كأنهما جاهزان، لأول مرة، لمواجهة الحزب ومحاولة نزع سلاحه، على الأقل في منطقة جنوب نهر الليطاني.
لكن تبخرت هذه الآمال خلال الصيف بالتدريج، إذ أثبت “حزب الله” أنه خصم عنيد، وأكثر دهاءً ممّا ظنته واشنطن، فلم يخضع للضغوط، وعاد إلى تعزيز تسلُّحه وتكثيف وجوده السرّي، حتى في جنوب الليطاني. إسرائيل، من جهتها، صعّدت الهجمات الجوية، وقتلت أكثر من 350 مقاتلاً من “حزب الله” منذ وقف إطلاق النار في نهاية تشرين الثاني الماضي. وازدادت وتيرة الضربات في الأشهر الأخيرة. هذا الأسبوع، ولأول مرة منذ فترة، قصفت هدفا تابعا لـ”حماس” في الجنوب اللبناني، في مخيم عين الحلوة، ما أدى إلى مقتل 14 فلسطينياً.
تُظهر المؤشرات كلها أن هناك تصعيداً قادماً من الجانب الإسرائيلي، ويتحدث الجيش عن احتمال “أيام قتال”، أي عدة أيام من الاشتباك المركّز مع “حزب الله”، لإعادة الحياة إلى محاولات فرض القيود عليه. صحيح أن الحزب يدخل في المواجهة المقبلة ضعيفاً، مقارنةً بالماضي، لكن قيادته ترى أنه لا يوجد خيار أمامها، ولا يمكن التقليل من الضرر المعنوي الذي قد تُحدثه مواجهة كهذه بالجبهة الداخلية الإسرائيلية، في ساحة توقّف الجمهور، في معظمه، عن متابعتها يومياً.
وفي الخلفية، لا يمكن تجاهُل حسابات نتنياهو السياسية، وحجته – التي لا تخلو من المنطق – تستند إلى دروس 7 تشرين الأول: لن تُظهر إسرائيل ضبط النفس إزاء بناء قوة عسكرية في محيطها، كي لا تواجه منظمات “إرهابية” تتحول إلى جيوش، لكن لدى نتنياهو حسابات أُخرى مع اقتراب الانتخابات.
فهو، بشكل ثابت تقريباً، يزرع وعياً بوجود “عدو خارجي”، قبيل الانتخابات: إيران، و”حماس”، والسلطة الفلسطينية، و”داعش”. أمّا في غزة، وربما في إيران أيضاً، فيداه مقيدتان حالياً، لأن الظروف الاقتصادية صعبة، وهو يفكر، الآن، في تمرير قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية، وهو قانون غير شعبي، وبالنسبة إليه فإن استمرار الأجندة الأمنية يخدمه انتخابياً، حتى لو ذكّر الجمهور بأن المهمة العسكرية لم تكتمل بعد، إذ ما زال في إمكانه تصوير نفسه على أنه “حامي الأمة” الذي هزم إيران و”حماس” (افتراضياً)، ولم يبقَ سوى “إغلاق ملف صغير” في بيروت. ويقول للناخبين: على مَن يمكنكم أن تعتمدوا غيري؟ وفي حال اندلاع معركة في لبنان، فهذا يعني أنه حصل على ضوء أخضر من ترامب، ومن الممكن أيضاً أن يكون الأمر عبارة عن ضغط علني بإذن أميركي، لدفع الحكومة اللبنانية إلى تقديم تنازلات.
أمّا في سورية، فتحتاج واشنطن إلى تهدئة، وتأمل بتقدّم سياسي، عبر القناة الإسرائيلية. إن زيارة نتنياهو، هذا الأسبوع، لمناطق في الجولان وجبل الشيخ، والتي احتلتها إسرائيل قبل عام – من دون مبرر واضح – تبدو محاولة لتسخين الساحة وتوجيه رسالة إلى الرئيس السوري، أحمد الشرع، تفيد بأنه “لا يوجد ما نتحدث عنه”.
بالنسبة إلى إيران، فإن “النافذة” لم تُغلق بعد، على الرغم من نجاحات حرب الـ12 يوماً في حزيران الماضي. صحيح أن إسرائيل أضرّت بالنظام، وبمشروعه النووي، وحصلت على دعم أميركي غير مسبوق، وتجاوزت حاجزاً نفسياً منعها من مهاجمة إيران عقوداً، لكن مع ذلك، لا يُبدي المرشد، علي خامنئي، أي استعداد للتراجع عن البرنامج النووي. إلّا إن إسرائيل قلِقة من تجدّد العمل على منشآت تخصيب اليورانيوم، وعلى وجه الخصوص، من وتيرة تعافي صناعة الصواريخ الباليستية.
ما زالت إيران مكشوفة بالكامل أمام الهجوم، بعد تضرُّر دفاعاتها الجوية، وأزمة المياه الحادة التي تؤدي إلى انقطاع الإمداد لساعات يومياً، تحرج النظام أمام مواطنيه، لكن المرحلة المطلوبة الآن هي من الولايات المتحدة التي لا تزال غائبة؛ فالولايات المتحدة بحاجة إلى صوغ اتفاق نووي جديد يعيد الرقابة، ويبعد إيران عن القنبلة، ومن دون اتفاق لا حديث عن استقرار طويل المدى.
لقد ظهرت قواعد اللعبة الجديدة في لقاء ترامب – بن سلمان، إذ قيل في الإعلام الإسرائيلي، إن ترامب قد يمنح السعوديين طائرات F-35، في مقابل التطبيع مع إسرائيل، وهو ما قد يمسّ بمبدأ “التفوق العسكري النوعي”، لكن تبيّن أن الضجة مبالَغ فيها: ترامب مستعد لبيع الطائرات للرياض، لكن التطبيع غير مطروح، وبن سلمان مستعد، نظرياً، للتقدم نحوه إذا ضمن مساراً واضحاً لإقامة دولة فلسطينية خلال خمسة أعوام. ترامب مستعد لمنح السعودية هدايا طلبتها منذ أعوام – أي اتفاقا دفاعيا ومشروعا نوويا مدنيا برعاية أميركية – في مقابل أثمان ليس لها علاقة مباشرة بإسرائيل.
إن العلاقة بين ترامب ونتنياهو لم تتدهور بالضرورة، لكنها توضع الآن في سياق جديد: فسحرُ الأموال الخليجية، بالنسبة إلى ترامب، أكبر كثيراً، وأوهام اليمين الإسرائيلي – ضم الضفة، ترحيل الفلسطينيين، وبناء مستوطنات في غزة – دخلت الآن في حالة جمود عميق. يصغي ترامب إلى نتنياهو، لكنه هو مَن يضع القواعد، مثلما فرض عليه إنهاء الحربين في إيران (حزيران)، وفي غزة (تشرين الأول).
أمّا ملف الأسرى، فكشف هو أيضاً قوة الضغط الأميركي، وقبل الصفقة الثالثة والأخيرة، قدّرت الاستخبارات العسكرية أنه سيكون من الصعب إقناع “حماس” بالتخلي عن آخر أسيرٍ حيّ، لكنها أطلقت 20 أسيراً حياً دفعة واحدة، ثم أُعيدت جميع الجثامين، باستثناء ثلاثة، والسؤال الذي يطرحه ضابط كبير: كيف فعل ترامب ذلك؟ بمَ وعد الأميركيون والقطريون والوسطاء “حماس” في مقابل ذلك؟ قبيل الصفقة، التقى مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، قيادياً في “حماس”، وتسمح الإدارة الحالية لنفسها بالقيام بخطوات تجاه “حماس” لم تكن أي إدارة ديمقراطية لتتقبّلها.
هذا الأسبوع، صادق مجلس الأمن على القرار الأميركي بشأن إنشاء قوة استقرار في القطاع، وبذلك توافق إسرائيل، رسمياً، على دخول قوة أجنبية إلى أراضٍ فلسطينية – وهذا التنازل حذّر منه نتنياهو منذ التسعينيات، وهذه الخطوة ليست مجرد تدويل للنزاع، بل تربط غزة بالضفة من جديد، خلافاً لسياسة نتنياهو الثابتة التي عمل فيها على تعميق الانقسام بين “حماس” والسلطة الفلسطينية.
القوة الدولية ما زالت لغزاً
قد توافق دول عربية وإسلامية على إرسال قواتٍ لإرضاء واشنطن، لكنها لن تُدخل جنودها إلى نصف القطاع الذي تسيطر عليه “حماس”، حيث يتكدس السكان، ولا أحد في الشرق الأوسط مستعد لتجريد “حماس” من سلاحها، لأن التكلفة السياسية، محلياً، قد تكون كارثية، وما زالت الإدارة الأميركية غير قادرة على بلورة حل: فهناك حاجة إلى قوة فلسطينية بديلة، تكون مرتبطة بالسلطة (وإسرائيل ترفض)، ومستعدة للاحتكاك بـ”حماس” (والسلطة لا ترغب في ذلك).
وفي ظل غياب أي تقدُّم فعلي على الأرض، تُعرض الصور من مركز التنسيق الدولي في “كريات غات” كبديل؛ الأميركيون هم الذين يقررون، لكنهم يحرصون على جذب انتباه الإسرائيليين إلى ذلك، وفي الوقت عينه، يشعرون بغموض صيغة الاتفاق الذي يُطبَّق؛ وصندوق الإغاثة لم يحقق أهدافه في توزيع الغذاء، وعمليات القتل الجماعي التي وقعت بالقرب من مراكزه لم تُمحَ من الذاكرة؛ ولا يزال ناشطون مسيحيون إنجيليون ورجال أعمال إسرائيليون وضباط احتياط – كثيرون منهم لديهم ارتباطات بنتنياهو، يثيرون المشكلات.
الآن، يجري الحديث عن افتتاح أكثر من عشرة مراكز توزيع للمساعدات على “الخط الأصفر”، الفاصل بين المنطقة الفلسطينية والمنطقة الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، لكن الغذاء ما زال محدود التنوع، ومشكلات الصرف الصحي والمياه قائمة، وإسرائيل تواصل منع إدخال مواد ثنائية الاستخدام قد تساعد “حماس” عسكرياً.
إن مستوى تعافي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” أعلى كثيراً مما توقعته إسرائيل، فبحسب تقديرات الجيش، لدى “حماس”، اليوم، ما بين 20 و25 ألف مقاتل مسلح، ولدى “الجهاد” ما بين 8 و10 آلاف، وهي أعداد كبيرة تُظهر أن التنظيمين في مرحلة تجديد لقوتيهما حتى لو كان المقاتلون، في معظمهم، صغار السن وقليلي الخبرة. وهذا بعيد جداً عن وعود “النصر المطلق”.
أزمة الجيش الإسرائيلي تتفاقم: هذا الأسبوع، تم تبليغ الكنيست أن نحو 600 من عناصر الخدمة الدائمة طلبوا التقاعد المبكر، وهناك عجز يبلغ نحو 12 ألف جندي نظامي؛ أمّا جنود الاحتياط فسيتلقّون استدعاءات لـ70 يوماً في العام المقبل، وفي الوقت عينه، يحتاج الجيش إلى تجديد مخازن الذخيرة، وتحديث خططه القتالية، وصفقات تسلُّح طويلة الأمد، ولا يمكن العودة إلى نموذج ما قبل 7 تشرين الأول لحماية الحدود.
السؤال المركزي: ماذا ستجلب إسرائيل إلى الحرب القادمة؟
إذا كانت إيران و”حزب الله” يستعيدان قوتيهما، فما الجديد لدى إسرائيل؟ من الواضح أنها بحاجة إلى إعادة بناء مخزون صواريخها الاعتراضية والأسلحة التي استُخدمت خلال عامين، والسؤال: كيف تفاجئ الخصم، بعد أن كُشفت معظم أوراقك؟
لقد وُضعت خطط الجيش سابقاً لحرب تستمر 4 أسابيع في لبنان، يليها أسبوعان في غزة، وتحدث رئيس الأركان السابق، هرتسي هليفي، عن ضرورة تمديد المدة. الآن، من الواضح أنه يجب الاستعداد لحروب استنزاف متعددة الجبهات.
هذه الحاجات تُترجَم إلى ميزانيات غير مسبوقة: وزارة الدفاع تتحدث عن 144 مليار شيكل في سنة 2026، منها مئة مليار للتسليح، و37 مليار للاحتياط، و7 مليارات للجاهزية، من دون سيناريو حرب جديدة.
وفي الخلفية، باتت الصناعات العسكرية الإسرائيلية في ذروة الطلب العالمي: دول أوروبا وآسيا، التي تواجه تصعيداً مع روسيا، أو الصين، تزيد في ميزانيات الدفاع، وتبحث عن شراء سريع. وفي مفارقة تاريخية، اليوم، باتت إسرائيل تساهم في تعزيز القوة الدفاعية لألمانيا واليابان، أمّا الهند فهي الشريك المركزي في صفقات الإنتاج المشترك.
عن “هآرتس”





