الثلاثاء, ديسمبر 16, 2025
spot_img
الرئيسيةزواياأقلام واراءالمنطقة العربية بين التحولات ومسلسل التفتيت … بقلم :د.فريد اسماعيل

المنطقة العربية بين التحولات ومسلسل التفتيت … بقلم :د.فريد اسماعيل

لم يكن نعي السفير الامريكي لدى تركيا والمبعوث الخاص للرئيس الامريكي السيد توم براك لاتفاقية سايكس_بيكو في ٣٠-٨-٢٠٢٥ عبثيا، حين ذكر بأنه “في ذهن إسرائيل هذه الحدود التي رسمتها الاتفاقية لا معنى لها”، وهي الاتفاقية التي قسمت اراضي الإمبراطورية العثمانية في بلاد الشام والعراق ، وأسست لقيام الدول الحديثة مثل لبنان وسوريا والاردن وفلسطين قبل أن تحتل الحركة الصهيونية فلسطين وتعلن قيام كيانها. لكن يبدو ان براك كان يشير إلى فرض واقع جديد أكثر خطورة وأوسع شمولية في مجاله الجغرافي ليشمل معظم المنطقة العربية ويمتد إلى السودان واليمن لتقسيم المقسم وتفتيت المفتت . وما يساهم في فرض هذا الواقع هو هشاشة النظام في هذه الدول، وتقديم اطراف داخلية طامحة للسلطة نفسها أدوات طيعة في يد كيانات في المنطقة وعلى رأسها دولة الإمارات التي تستخدم نفوذها ومقدراتها المالية في دعم هذه الجماعات، ما يصب في خدمة المشاريع الصهيونية والامريكية القائمة على اضعاف المنطقة وتفتيتها والقضاء على مقدراتها وصولا لتقسيمها إلى كيانات أكثر ضعفا وهشاشة وتبعية.

 

المحطة الأولى لقطار التحولات في المنطقة كانت في العراق الذي حولته الولايات المتحدة الأمريكية من دولة قوية متماسكة إلى هيكل طائفي تتقاسم فيه النفوذ مع إيران في إطار لعبة التخادم البراغماتي في المصالح . بعدها شق القطار طريقه نحو ليبيا حيث لعب الغرب الدور المحوري في تفتيها بعد سقوط نظام القذافي عبر دعم أطراف متصارعة وافشال التحول الديمقراطي.  فتوزع الدول الغربية بين دعم حكومة الوفاق في طرابلس وبين التعامل مع قوات حفتر في الشرق عزز الانقسام السياسي والجغرافي، وحول ليبيا إلى ساحة صراع اقليمي ودولي أصبح الغرب فيها جزءًا من معادلة الصراع، مما حول هذه الدولة العربية التي تمتلك احتياطات ضخمة من النفط والغاز إلى دولة فاشلة ومنقسمة.

مر قطار التفتيت المدمر عبر عدة عواصم عربية تحت مسمى “الربيع العربي ” ليغير مساره نحو غزة وينضم إلى قطار الموت الصهيوني الذي لا يعرف سوى القتل والابادة والتطهير العرقي والتهجير في عملية استغلال لمغامرة اخوانية عبثية استخدمها ولا زال لتحقيق الأحلام الصهيونية بإنهاء الوجود الفلسطيني برمته.  كذلك فإن القوى الممسكة بمسار هذا القطار الهائج، وتحت غطاء الدفاع عن الاقليات، تمنع قيام دولة قوية مركزية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وتشجع الاقليات على الاستمرار في التمرد على النظام الجديد رغم ادعاءها دعمه، في الوقت الذي تتمدد فيه إسرائيل في الجنوب السوري ليلامس جيشها اطراف دمشق العاصمة.

لقد ساهمت العديد من العوامل في فقدان دول المنطقة وشعوبها لحصانتها الوطنية ولتماسكها المجتمعي، وابرزها تشويه الطبقات الحاكمة لمفهوم دولة المواطنة حيث الولاء للقائد لا للوطن وحيث تهيمن المفاهيم القبلية والطائفية على مفهوم الدولة الحامية والراعية لكل مواطنيها على قدم المساواة بغض النظر عن المعتقد والدين والطائفة والعرق والعشيرة، ما سمح للمشاريع الدولية والاقليمية بالتغلغل داخل هذه المجتمعات وإيجاد من يتبناها ويقاتل من اجلها حتى وإن تناقضت مع مصالح وطنه. كما ساهم التضييق على الحريات وسياسة القمع وغياب التنمية الحقيقية وعدم مواكبة التطور العالمي الى اتساع الهوة بين النظام والمواطن ، ما سمح للتيارات الدينية والطائفية المتطرفة من ايجاد الأرضية المناسبة للتمدد وتنفيذ مشاريعها الخارجة عن حدود الوطن والمرتبطة باجندات اقليمية ودولية.

وفي الوقت الراهن يحط قطار التفتيت رحاله في السودان واليمن. فالسودان كان ومنذ عقود هدفا ومحور اهتمام دولي بسبب موقعه وموارده. فهو يقع في قلب القرن الافريقي ويشغل شاطئا طويلا على الحوض الغربي للبحر الأحمر الذي يمثل أحد أهم الممرات البحرية العالمية. كذلك فإن امتلاكه لموارد زراعية ومائية ضخمة إضافة إلى الذهب والمعادن، يجعل منه ساحة تنافس بين القوى الخارجية. ولو قدر للسودان بناء دولة سيدة قوية، لتحول إلى خزان غذائي يفيض حتى عن حاجة كل المنطقة العربية، ولكان قادرا على الاستثمار الفعال في استخراج الذهب والمعادن النادرة التي تؤكد التقارير توافرها في باطن أرضه، والتي تشكل اليوم عصب ثورة التكنولوجيا والمعرفة.  ولذلك فإن الكثيرين اليوم في دول الاقليم والعالم يريدون جزءًا من قطعة الحلوى السودانية، ولذلك أيضا فإن الصراع القائم اليوم بين الجيش والدعم السريع تجاوز حدود الداخل، وبدأت تتضح فيه معالم خرائط التقسيم والتفتيت حيث اصبح الدعم السريع وبدعم من دولة الإمارات وقوى أخرى يسيطر على المثلث الحدودي مع مصر وليبيا إضافة إلى الحدود مع تشاد ومؤخرا مع دولة جنوب السودان، إضافة الى سيطرته على معظم المنطقة الغربية والغربية الجنوبية من السودان والتي تتركز فيها معظم مناجم الذهب، وتشكيله حكومة موازية في تكريس فعلي لانقسام دولة السودان الى كيانين منفصلين بعد أن كان الخارج قد نجح منذ سنوات في فصل الجنوب والاعتراف بدولة جنوب السودان.

لقد تحول السودان اليوم بفعل الصراع وتدفق اللاجئين نحو مصر وتشاد وجنوب السودان وليبيا واثيوبيا من جسر بين العالم العربي وأفريقيا إلى بؤرة عدم استقرار، وكلما طال أمد الصراع زادت فرصة تعمق تدخل القوى الاقليمية والدولية عبر الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لاطراف مختلفة، ما يجعل مستقبل السودان مرهونا بصفقات خارجية ترسم خريطته من جديد.

العراق، ليبيا، غزة، الضفة، لبنان، سوريا، السودان، واليوم أيضا اليمن من جديد. فسيطرة المجلس الانتقالي المدعوم من دولة الإمارات على حضرموت والمهرة بما تحويه من مناطق نفطية ومواقع عسكرية مهمة يعد تحولا نوعيا كبيرا في ميزان القوى داخل اليمن، حيث كانت هذه المحافظات آخر مناطق النفوذ في الشرق للحكومة المعترف بها دوليا، مما يجعل مخطط التقسيم ومشروع الدولة الجنوبية أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى، إذ أصبح الجنوب والموارد النفطية والغازية والموانىء في يد الانتقالي وتحول الجنوب إلى كيان شبه مكتمل. وهذا يعني إعادة رسم خريطة النفوذ الاقليمي إذ تم تعزيز النفوذ الاماراتي في الشرق والجنوب وتقلص نفوذ حزب الإصلاح والحكومة، مما خلق حساسية مع سلطنة عمان التي تعتبر المهرة منطقة نفوذ تقليدية لها.  ومع سيطرة الحوثيين على الشمال والانتقالي على الجنوب والشرق، يصبح سيناريو تقسيم اليمن قائما:شمال تحت حكم الحوثي، جنوب وشرق تحت حكم الانتقالي، وحكومة شرعية بلا أرض. وبذلك يدخل اليمن مرحلة جديدة هي الأخطر من كل ما سبق.

ما يحدث في منطقتنا يثبت ان عالمنا العربي لم يبني دولا، وإنما كيانات هشة ساهمت في تعبيد الطريق امام قطار التفتيت والتقسيم الذي يسارع الخطى. فأين محطته القادمة ، وهل هناك من يستطيع الضغط على المكابح!!!

مقالات ذات صلة

ابق على اتصال

16,985المشجعينمثل
0أتباعتابع
61,453المشتركينالاشتراك

أقلام واَراء

مجلة نضال الشعب