بقلم: آفي ساغي /يرسم تقرير بروديك – الكتاب الكلاسيكي لفيليب كلوديل – صورة لهيئتين تعيشان خارج المجتمع: الغريب والآخر.
الغريب (بروديك) يعيش على هامش المجتمع، وبسبب غربته لا يصغي المجتمع بما يكفي إلى معاناته ورغباته، لكنه مع ذلك يعيش في علاقة ما معه، حتى لو لم يكن منفتحاً على وجوده الكامل، فهو يراه.
أمّا الآخر، فيُعد تهديداً للمجتمع؛ فعندما تُوصم شخصية ما بالـ”أُخروية”، تتحول إلى كيان خيالي ويختفي حضورها الواقعي، وفي لحظة واحدة، تكفّ عن كونها إنساناً، وتتحول إلى تجسيد لشخصية شيطانية، وبذلك يُحسم مصيرها، وتتحول “الأُخروية” إلى طبيعتها الثابتة غير القابلة للتغيير.
منذ قيام الدولة، يصوغ المجتمع في إسرائيل علاقته بالعرب ضمن طيف يتراوح بين الغرباء والآخرين. وفي العقد الأخير، وحتى الحرب في 7 تشرين الأول 2023، على الرغم من التحديات في العلاقات اليهودية – العربية، فقد وضعت أغلبية المجتمع اليهودي المجتمع العربي في موقع أقرب إلى محور “الغرباء”. لكن منذ الحرب، تبذل السلطة وأذرعها جهداً كبيراً لتحويل المواطنين العرب في إسرائيل إلى “آخرين” في المجالين العام والسياسي.
في المجال العام: يُبذل جهد غير مسبوق لتجريم المواطنين العرب وإلصاق العار بهم؛ إذ صارت سلطات إنفاذ القانون بمثابة “الأنا الأعلى” الذي يمثل – ظاهرياً – الفضاء العام اليهودي، مراقِباً ورقيباً، ويتم محو الهوية الفعلية للعرب كمواطنين إسرائيليين، ويحل محلها تصورهم كأعداء محتملين، وكـ”مشتبه فيهم أبديين”.
في المجال السياسي: يعمد المشرّع والحكومة إلى دفع خطوات وإجراءات ترسّخ مكانة المواطنين العرب كـ”آخرين” خطِرين، ويمكن رؤية ذلك بوضوح في اقتراحين مطروحَين على جدول الأعمال:
المساس الشديد بميزانيات الخطة الخمسية للتطوير الاجتماعي – الاقتصادي للمجتمع العربي، وتحويلها إلى الشرطة و”الشاباك”، بذريعة التعامل مع الجريمة. لاحِظوا: عندما ينفلت الإرهاب اليهودي في الضفة، ترى الحكومة أن التعامل معه يجب أن يكون حضارياً، وفي الوقت نفسه، تنتزع من المجتمع العربي ميزانيات التعليم والرفاه والبنية التحتية المخصصة لمعالجة جذور الجريمة لمصلحة نشاطات قمعية، تشمل أدوات معدّة أصلاً لإحباط “الإرهاب”.
مبادرة لإخراج الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية خارج القانون، ومنع قائمة “راعام” من خوض الانتخابات؛ إذ تريد الحكومة، التي تضم ورثة خط تنظيمات “كاخ” و”كهاناه حي” التي صُنّفت سابقاً كتنظيمات إرهابية، استخدام الأدوات التي وُجّهت ضد تلك التنظيمات، وبحق، وتطبيقها على حزب عربي من دون أي أساس قانوني.
وإن المنطق الكامن وراء هذين الاقتراحين هو أن المواطنين العرب في إسرائيل هم “آخرون”، ولذلك يجب إقصاؤهم من المجالين العام والسياسي. وهما يقوّضان الثقافة والقيم التي تُدار بها دولة ديمقراطية – ليبرالية، ويستبدلانها بمنطق موجَّه ضد “عدو”. وهكذا، تُرسِّخ الدولة نهائياً اختلاف العرب: يمكنهم البقاء فقط إذا تخلوا عن هويتهم وتبنّوا صورة العربي التابع التي ترسمها الدولة.
الافتراض الذي يجمع كل هذه العمليات هو افتراض خاطئ، سواء في فهم مفهوم المواطنة، أو فهم الصهيونية نفسها، فالدولة ملك لجميع مواطنيها: القانون، والقوة، والجماعة، جميعها ملك للجميع، وهُم أسياد الدولة، وهُم الذين يمنحون مؤسساتها الشرعية. والمواطنون العرب في إسرائيل جزء من العقد المدني الذي يقوم عليه أساس الدولة، ومن يحول المواطنين العرب إلى “آخرين”، ينسف مفاهيم المواطنة الأساسية، ويستبدلها بقيم قبلية ليست ديمقراطية – ليبرالية. كما أن سلب الحقوق يمثّل أيضاً مساساً بالصهيونية التاريخية؛ فقد كان المشروع الصهيوني “إنسانياً” في جوهره، إذ سعى لإيجاد حل لليهودي كإنسان وللشعب اليهودي كشعب يعيش إلى جانب شعوب أُخرى.
إن انزلاق المجتمع العربي نحو “الاختلاف” برعاية المؤسسة يكرر التجربة اليهودية في المنفى، التي قامت الدولة أساساً لتجاوزها، وفي الذاكرة اليهودية، تتراكم خبرات الغربة والاختلاف والارتياب الدائم، التي جعلت اليهودي كبش فداء. والآن، يحدث مسار يلقي فيه الضحية تجربتَه على مجتمع مدني كامل.
ولا يُتوقع من اليمين الراديكالي الفاشي أن يُجري مراجعة للذات بشأن تقويضه ركائز المجتمع المدني والصهيونية، فهذه هي غايته أصلاً، لكن صمت مَن يسمّون أنفسهم “المعسكر الليبرالي” مقلق للغاية؛ أليس لهم دور في الدفاع عن كرامة الإنسان؟ ألا يهمّهم توسيع حدود “نحن” الضيقة؟ ألا يهمهم المحافظة على عضوية الجميع في الجماعة المدنية كقيمة وأساس دستوري في الدرجة الأولى؟
عن “هآرتس”





