
إسطنبول ـ «القدس العربي»: توحي الاستعدادات العسكرية على الأرض وتهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتتالية عن قرب إطلاق عملية عسكرية جديدة للجيش التركي في شمال سوريا بأن العملية باتت وشيكة بالفعل، لكن التعمق في تعقيدات المعادلة السياسية والعسكرية في شمالي سوريا يؤكد أن العملية العسكرية التركية ما زالت بحاجة إلى كثير من الوقت لحين التوصل إلى توافقات تتيح إطلاقها فعلياً.
في السابق كان المحللون السياسيون يجمعون على أن أي عملية عسكرية للجيش التركي في شمالي سوريا لا يمكن أن ترى النور بدون توافقات مع أمريكا وروسيا أو إحداهما على الأقل، وكانت تميل الكفة إلى سهولة حصول توافقات بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، لكن وفي ظل الحديث عن عملية تستهدف الوحدات الكردية المدعومة أمريكياً فإن أنقرة مجبرة تماماً على التوصل إلى تفاهمات في هذا الإطار مع الجانبين الروسي والأمريكي في ذات الوقت.
والسبت، جدد أردوغان التهديد بأن بلاده عازمة على القيام بعمليات عسكرية جديدة في سوريا، وقال: «في وقت قريب سوف نتخذ خطوات جديدة وهامة»، على غرار عملية درع الفرات التي قام بها الجيش التركي ضد تنظيم الدولة في مناطق جرابلس ودابق والباب شمالي سوريا. وبعد أن حذر من أن دول تحاول محاصرة تركيا من خلال تنظيم بي كا كا وامتداداته ـ في إشارة إلى الوحدات الكردية بسوريا- اتهم الأطراف الدولية بمحاولة تعزيز نفوذها في سوريا بحجة محاربة الإرهاب، وقال: «نحن نفضل أن ندفع ثمن إفشال خطط ضد مستقبلنا ومستقبل الحرية في سوريا والعراق عن أن يكون الثمن على أراضينا».
وبالتزامن مع تصريحات أردوغان، واصل الجيش التركي إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى الحدود مع سوريا لا سيما المناطق المتاخمة لمدينة عفرين التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة الامتداد السوري لتنظيم بي كا كا الإرهابي، وتتهمها بالسعي إلى وصل مناطق نفوذها في شرق وغرب نهر الفرات لإقامة دولة كردية وهو ما تعتبره أنقرة «تهديداً خطيراً لأمنها القومي».
وشملت التعزيزات الأخيرة بطاريات مدفعية ثقيلة ودبابات ومدافع هاوتزر، وسبق أن أرسل الجيش التركي في الأسابيع الأخيرة عشرات الآليات العسكرية المتنوعة إلى مناطق داخل سوريا متاخمة لعفرين أو إلى الجانب التركي المقابل للمدينة، إلى جانب تعزيزات أخرى للقوات المتواجدة في مناطق «درع الفرات».
وضمن حملة منظمة، ركز الإعلام التركي ووكالة الأناضول الرسمية طوال الأسابيع الماضية على نشر أخبار «انتهاكات إرهابيي (ب ي د) شمالي سوريا»، وتظاهرات السكان العرب ضد احتلال مناطقهم من قبل التنظيم وعمليات القصف التي يقوم بها ضد المناطق المدنية، لا سيما قصف مناطق مارع انطلاقاً من محيط عفرين حيث قتل، الأحد، بحسب وسائل إعلام تركية 3 مدنيين وأصيب آخرين في آخر حملة من القصف على مارع نفذها التنظيم، كما نظمت تظاهرات الجمعة الماضية في العديد من المناطق شمالي سوريا رفعت فيها لافتات تطالب الجيش التركي التدخل «لحماية المدنيين».
وخلال الأيام الماضي، تعمد الجيش التركي الاحتكاك بالوحدات الكردية في عفرين في أكثر من مناسبة ووجه ضربات مدفعية وبالصواريخ لمواقع هذه الوحدات فيما يشبه تسخين هادئ للعملية ومحاولة جس رد الفعل العسكري على الأرض والموقف الأمريكي سياسياً.
كل المعطيات السابقة تؤشر إلى اكتمال الاستعداد سياسياً وعسكرياً في تركيا لمهاجمة الوحدات الكردية في عفرين، لكن الأمر لا يبدو كذلك مع صعوبة التعقيد الدولي في المعادلة السياسية والعسكرية في شمالي سوريا.
فوحدات حماية الشعب التي تقود عملية الرقة ضد تنظيم الدولة بدعم كامل من واشنطن هددت بشكل حاسم بأنها سوف تنسحب من العملية في حال تعرضت لهجوم من قبل الجيش التركي في عفرين أو مناطق أخرى، وهو ما سيدفع واشنطن التي عارضت أن تحرك للجيش التركي ضد الوحدات الكردية إلى التدخل والضغط على أنقرة سياسياً وربما عسكرياً لمنع مهاجمة عفرين.
وإلى جانب خشية أنقرة من عودة واشنطن لاتهامها بعدم دعم الحرب على الإرهاب والتأثير على سيرها، يمكن أن يواجه الجيش التركي مقاومة شديدة من قبل الوحدات الكردية باستخدام أسلحة متطورة وفتاكة استلمتها من وزارة الدفاع الأمريكية في إطار الدعم الذي تلقته من أجل عملية الرقة ووصل بحسب مصادر تركية إلى 800 شاحنة أسلحة ومعدات عسكرية.
وفي مؤشر على صعوبة المقاومة التي ستواجهها القوات التركية وحلفاؤها من المعارضة السورية من قبل وحدات حماية الشعب، قتل قبل أيام 15 مقاتلاً من فصيل سوري مدعوم من أنقرة خلال محاولته التقدم نحو قرية عين دقن بريف حلب الشمالي والتي تسيطر عليها الوحدات التي يبدو أنها استخدمت أسلحة أمريكية متطورة في صد الهجوم الذي كان مدعوماً بغطاء مدفعي تركي.
وعلى الجانب الآخر، وعلى الرغم من أن العلاقات بين تركيا وروسيا أحسن حالاً منها مع أمريكا، إلا أن التوافقات بين أردوغان وبوتين في سوريا بنيت على مصالح مشتركة، أي بمعنى أن تركيا ستكون مجبرة على تقديم تنازلات مهمة لموسكو من أجل سحب قواتها فعلياً من عفرين وإعطاء أنقرة الضوء الأخضر من أجل مهاجمتها.
والشهر الماضي، تحدثت مصادر تركية عن وجود تفاهمات مبدئية بين أنقرة وموسكو، تقوم بموجبها روسيا بسحب قواتها من عفرين، مقابل تقديم تركيا دعماً سياسياً وعسكرياً لعملية دولية مرتقبة ضد جبهة تحرير الشام «النصرة سابقاً» في محافظة إدلب.
ويبدو أن أنقرة باتت مضطرة بالفعل لدعم أي تحرك دولي ضد جبهة النصرة في إدلب لا سيما عقب سيطرة مسلحي الجبهة على المناطق المتاخمة لمعبر باب الهوى الحدودي الأمر الذي فتح الباب مجدداً أمام الاتهامات والتلميحات ضد أنقرة بالتساهل في الحرب مع التنظيمات الإرهابية. كل هذه المعطيات وغيرها تؤشر إلى أن التهديدات التركية والتجهيزات العسكرية على الأرض ربما تأتي في إطار الضغط المرافق لمحاولة التوصل إلى توافقات مع موسكو وواشنطن، لكنها لا تعني أن العملية العسكرية باتت وشيكة وأن انطلاقها بشكل واسع لن يتم إلا في حال حصول التوافقات المأمولة وإلا فإن أي تحرك تركي خارج هذا الإطار يعني فتح الباب واسعاً أمام جميع الاحتمالات.




