في اجتماع المجلس الوطني الذي انعقد في الجزائر عام 1989، وفي دورته تلك، أُعلن عن قيام دولة فلسطين المستقلة على حدود الرابع من حزيران، فيما سمّي بإعلان الاستقلال، وقد جاء هذا القرار مواكبًا لانطلاق الانتفاضة الشعبية المباركة في فلسطين المحتلة عام 1987، التي أعادت للقضية الفلسطينية حضورها الإقليمي والدولي، وأيقظت الضمير العالمي، وأكسبت الشعب الفلسطيني مزيدًا من التعاطف والتأييد العالمي لحقوقه الوطنية المشروعة في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، كما أعادت لمنظمة التحرير الفلسطينية مكانتها ودورها التاريخي في تمثيل وقيادة النضال الوطني للشعب الفلسطيني، بعد سلسلة التراجعات التي مرّت بها عقب الخروج من لبنان إلى مناطق بعيدة عن ساحة الوطن، وتوقف المقاومة المسلحة، والانقسامات التي عصفت بالمنظمة، وانتقال ثقل العمل الفلسطيني إلى داخل الوطن.
ومع دخول منظمة التحرير في مفاوضات سياسية مع الاحتلال الإسرائيلي في مؤتمر مدريد، ثم إعلان اتفاق أوسلو برعاية دولية، والذي نصّ على اعتراف متبادل بين دولة الاحتلال والمنظمة ممثلةً للشعب الفلسطيني، وعلى الاعتراف بالقرارين 242 و338 وقرارات الأمم المتحدة كأساس للحل السياسي، وتأجيل قضايا القدس واللاجئين والاستيطان إلى ما بعد خمس سنوات كان يفترض أن تنتهي بإعلان دولة فلسطين المستقلة؛ وبموجب هذا الاتفاق جرى الإعلان عن تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة المرحلة الانتقالية.
ومع تراجع أحزاب اليسار والوسط في دولة الاحتلال، وتصاعد قوة الأحزاب الدينية واليمين واليمين المتطرف ووصولها إلى الحكم، تنكّرت حكومة الاحتلال لكل الاتفاقيات، وانتهجت سياسة معادية للشعب الفلسطيني ولحقوقه الوطنية، وأطلقت مشروع تهويد القدس، وأنشأت المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية التي تجاوز عددها 150 مستوطنة، وتضاعف عدد المستوطنين إلى أكثر من مليون، بعدما كان أقل من مئة ألف قبل اتفاق أوسلو، ويهدف هذا النشاط الاستيطاني، أولًا وأخيرًا، إلى تقويض حلم الشعب الفلسطيني في إقامة دولته ودفعه نحو الهجرة إلى الخارج.
ومع تراجع دور النظام العربي الرسمي وقدرته على التأثير، ولا سيما بعد أحداث حرب الخليج الثانية وأحداث الربيع العربي، تراجع حضور القضية الفلسطينية في السياسة الدولية، فيما انتهجت الولايات المتحدة سياسة معادية لحقوق الشعب الفلسطيني، ودعمت مشاريع الاحتلال في الاستيطان والضم، خصوصًا مع صعود ترامب وإدارة الجمهوريين إلى الحكم.
لقد بذلت السلطة الوطنية الفلسطينية جهودًا كبيرة في إنشاء مؤسسات وطنية منتخبة، ووضع قواعد للحكم والتشريع، وإقرار القوانين والدستور الفلسطيني المؤقت، وإنشاء وزارات سيادية، وأصبحت مسؤولة عن خدمات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والاقتصاد والتجارة والأمن الداخلي، حتى غدت أقرب ما تكون إلى دولة تحت الاحتلال.
وبعد أحداث السابع من أكتوبر عام 2023، والعدوان الإسرائيلي على غزة والضفة، وتدمير قطاع غزة، وارتكاب الاحتلال جرائم حرب وتطهيرًا عرقيًا، اكتسبت القضية الفلسطينية زخمًا وتعاطفًا واعترافًا عالميًا كبيرًا من دول كانت تحسب على إسرائيل، فيما تواصل الولايات المتحدة إنكار الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتعمل بعد أحداث غزة على عزل السلطة وحصارها، وهنا يبرز التساؤل: هل أصبح إعلان الدولة والاستقلال وفرض الأمر الواقع على المجتمع الدولي، ولو دون اتفاقيات مع الاحتلال، خيارًا واقعيًا؟
إن الاحتلال ماضٍ في سياسات الضم والاستيطان والتهجير وفرض الأمر الواقع، فيما يتراجع دور السلطة ويتآكل لصالح سلطة الاحتلال، ولا مجال لمفاوضات مع حكومة فاشية مدانة بارتكاب جرائم حرب، وعليه، فإن إعلان الاستقلال، المستند إلى قرارات الشرعية الدولية وإلى اعتراف الغالبية الساحقة من دول العالم بدولة فلسطين، يجب أن يكون توجهًا وطنيًا للسلطة والمنظمة والشعب الفلسطيني، بعد أن أُغلقت كل منافذ الحل السياسي مع دولة الاحتلال.
وعلى قيادة منظمة التحرير أن تبادر إلى التحضير لإعلان الدولة وفرض الأمر الواقع، عبر تحقيق الوحدة الوطنية الداخلية في إطار المنظمة، وتوحيد الموقف والجهد السياسي الفلسطيني، وإطلاق مشروع الإصلاح الشامل لمؤسسات السلطة، وتجديد الشرعيات عبر إجراء الانتخابات، وصولًا إلى إعلان دولة فلسطين مدعومة بإرادة شعبية فلسطينية، ودعم عربي، وتضامن واعتراف دولي، وإلا فإن الخيارات ستكون بين تصفية القضية الفلسطينية وضياع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.





