في المظهر العام، تبدو التوترات الأخيرة بين اليابان والصين في أقصى الشرق الآسيوي خارجة عن سياق “التفاهمات” التي يتم الحديث عنها والعمل عليها في عموم ساحات الصراع العالمية، من فلسطين إلى أوكرانيا. لكن منطق السياسة يقول إن معظم تحركات الدول الكبرى أو حلفائها التقليديين لا تأتي من فراغ، أو أقله لا تستمر دون دعم دولي، سواء في الخفاء أو في العلن.
من هذا المنطلق، اعتبرت الصين أن التصعيد الذي بدأته تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية الجديدة ساناي تاكايتشي بأن أي هجوم صيني على تايوان قد يؤدي إلى تحرك عسكري ياباني، الأمر الذي أثار غضب بكين فاستدعت السفير الياباني لتبلغه احتجاجها، لكن طوكيو أتبعت التصريح بنشر وحدة صواريخ أرض جو متوسطة المدى في جزيرة يوناغوني القريبة من تايوان، وهو ما فسرته الصين على أنه استفزاز مباشر وجزء من تحرك أكبر تقوده الولايات المتحدة الأمريكية و”حلفاؤها الإقليميون” لتضييق الخناق على بكين.
الاستفزاز هنا ليس اعتيادياً بمعنى التبعات والنتائج. برأي كبير محرري مجلة ناشونال إنترست في شؤون الأمن القومي، براندون جيه ويكرت، فإن هذه التحركات قد تٌشعل مواجهة واسعة في الشرق الآسيوي، أو في أقصى غرب الغرب إذا تحرينا نوعاً آخر من الدقة، أي أن المواجهة المُحتملة أقرب جغرافياً إلى الولايات المتحدة منها إلى الصين، وهو ما لا تفضله واشنطن على ما يبدو، كما يُمكن أن يُقرأ من خبر وكالة رويترز الذي يقول إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب طلب من تاكايتشي تجنب المزيد من التصعيد في النزاع مع الصين.
لكن قراءة أخرى في مقال “ناشونال إنترست” تقول إن الولايات المتحدة، “بعد سلسلة إخفاقات استراتيجية في الحرب على الإرهاب وفي أوكرانيا، تبدو مستعدة لدفع حلفائها نحو مواجهة جديدة بالوكالة ضد الصين”. قراءة تبدو منطقية في ظل المحاولة الأمريكية للانتهاء من ملفات معقدة أخرى في المنطقة وسواها، لأي هدف؟ ربما لحشد الطاقات باتجاه مواجهة مع “الخطر الأكبر” وهو الصين.
التصعيد يأتي في الوقت الذي يعاني الغرب من تراجع قدرته على خوص صراعات جديدة، رغم أنه ابتعد كثيراً عن “فن إدارة دوله اقتصاديا لصالح القوة الصلبة”، وهو ما يجعل القارة العجوز خارج حسابات القوة في أي مواجهة مُحتملة، مع الاكتفاء بتأثير التداعيات على الاقتصادات الأوروبية المُرهقة سابقاً من الحرب في أوكرانيا.
في حسابات التصعيد أيضاً، أن رئيسة الوزراء اليابانية الجديدة تجاوزت السياسة التقليدية اليابانية تجاه الصين وقضية تايوان تحديداً، ربما في محاولة لاختيار توقيت التصعيد دون تنسيق ربما مع واشنطن، وهو ما استدعى الاتصال بين ترامب وتاكايتشي. فرضية يعززها أن الاتصال بدا “استعراضياً” للمطالبة بالتهدئة دون الخوض مثلاً في أسباب التصريح الياباني المفاجئ.
ورغم أن الدستور الياباني كان بعد استسلامها في الحرب العالمية الثانية وحتى العام 2015 “سلمياً ينبذ استخدام القوة لتسوية النزاعات الدولية”، إلا أن تعديلات تمت قبل عشر سنوات تسمح لليابان باستخدام القوة في حالة إضافية واحدة: دعم دولة أجنبية “لها علاقة وثيقة باليابان” عندما تكون هذه المساعدة ضرورية للحفاظ على استقلال اليابان ورفاهية شعبها. التفسير الأبرز للدولة المعنية بهذا التعديل هو الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف العسكري الرسمي الوحيد لليابان.
أما الحالة الإضافية التي نص عليها القانون الياباني الجديد فهي إما تجدد الاشتباكات العسكرية في شبه الجزيرة الكورية أو صراع مسلح حول تايوان. صراع لا يمكن أن يكون طرفه الثاني إلا واشنطن أو أي من حلفائها. أصابع الاتهام الحقيقة في التصعيد الحالي تتجه بشكل أوضح إلى الولايات المتحدة، خصوصاً وأن تايوان تُعتبر نقطة ارتكاز أساسية في سلسلة من الأرخبيلات التي تعتمد عليها للسيطرة على النقل البحري وطرق التجارة، إضافة إلى أهميتها الحالية كمورد أساسي لأشباه الموصلات وغيرها من السلع عالية التقنية.
لكن الصين تمتلك أدوات قوة لا يُستهان بها، وليست عسكرية في مجملها. دعوة واحدة للمواطنين الصينيين لعدم زيارة اليابان كانت كفيلة بإلغاء نحو 40 بالمئة من الرحلة الجوية التي كانت مجدولة في شهر ديسمبر/ كانون الثاني من الصين إلى اليابان. هذه عقوبة اقتصادية ليست بسيطة، وهي بداية فقط.
تضغط بكين على رئيسة الوزراء اليابانية لسحب تصريحاتها التي اعتبرتها الصين “تجاوزاً للخطوط الحمراء”، وهددت كرد عليها بـ “هزيمة يابانية عسكرية” إذا تجرأت على الهجوم على تايوان. لكن العسكرة تمثِّل “الكي” في المثل القائل “آخر الحلول الكي”. قبل ذلك يمكن لبكين أن تمس إمدادات طوكيو من المعادن الأرضية النادرة التي تعتبر الصين أكبر مورِّد عالمي لها، وبالتالي سيمثل ذلك ضغطاً لا يُستهان به على اليابان، ولكنه خطوة أيضاً قد تدفع الولايات المتحدة للانخراط بشكل أكبر في هذا التصعيد، خصوصاً وأن الهدنة التجارية الأمريكية الصينية تبدو هشة جداً بعد قرارات ترامب المتعلقة برفع التعرفة الجمركية على البضائع الصينية.
في الخلاصة، لا تبدو منطقة شرق آسيا بعيدة عن أي تصعيد محتمل، خصوصاً في ظل الاتجاه الأمريكي غير المفهوم لتهدئة العديد من الملفات في العالم. يقول مراقبون إن واشنطن لا يمكن أن تسعى إلى تهدئة في مكان إلا لتفتح جبهة أخرى، أو جبهات، فالقوة العظمى في العالم لا يمكنها العيش إلا بمنطق إشعال الأزمات وتجارة الأسلحة. سنوات من حشد القوة باتجاه الصين قد تتحول إلى أمر واقع إذا تواصلت تداعيات الأزمة الحالية. لكن النتائج بالتأكيد مرهونة بنوع الاشتباك المُنتظر، سواء كان اقتصادياً تجارياً أو عسكرياً، مع التركيز على أن قوة الجيش الصيني الحقيقة لم تُختبر في مواجهة فعلية منذ سنوات طويلة. الأيام القادمة ستكشف مسار الأمور بالتأكيد، عسى أن لا تُفتح حرب جديدة يدفع العالم بأسره ثمنها بشكل أو بآخر.





