الإثنين, ديسمبر 15, 2025
spot_img
الرئيسيةزواياثقافة وادبفي اللغة واشتقاقاتها… ولقد همّت به وهمّ بها...بقلم : توفيق قريرة

في اللغة واشتقاقاتها… ولقد همّت به وهمّ بها…بقلم : توفيق قريرة

23qpt849

العنوان كما يرى القارئ اقتباسٌ صريح من سورة يوسف (الآية 24): «ولقد همّتْ بهِ وهَمَّ بهَا لوْلاَ أنْ رأى برهانَ ربِّه». هذه الآية أكثر فيها المفسّرون والقصّاصون حتّى بَنَوْا مشاهد كاملة بين نبيّ الله يوسف وامرأة قالوا إنّها امرأة العزيز لم يدخروا جهدا في البحث لها عن اسم فسموها زليخة. ليس في نيّتنا في هذا المقال العودة إلى ما قيل في هذا السياق إلاّ للتمييز بين نوع الدلالة في الفعل «همّ» الذي تشبهه في العربيّة أفعال أخرى تسمّى أفعال المقاربة والشروع ؛ ونحن نرى أنّ كثيرا من الخلل في تفسير الفعل (همّ) جاء من الخلط بين الفعلين: التامّ والناقص أو المساعد كما يقال عن مثيلاته في أنحاء أخرى.
ذهب المفسّرون مذاهب شتّى في اشتقاق فعل «همّ» فمنهم من ردّه إلى الرغبة في المواقعة فقال الطبري ومعنى «الهم بالشيء»، في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعتِه ما لم يُواقِع ومنهم من قرّبه من الهميان أي السّراويل. وهذه مذاهب بعيدة في الاشتقاق غرضها توفير بناء قصصيّ يركّز على المشهديّة التفصيليّة لحادثة «الهمّ» المتخيّلة على نحو معيّن قد تستطيبه أنفس بعض المفسّرين أو القصّاصين وجمهورهم، وليس هو الذي يقتضيه الاشتقاق القريب لفعل همّ فلقد جاء في لسان العرب: همّ بالشيء همّا نواه وأراده وعزم عليه وهذا هو المعنى الذي يتأكّد في القرآن في سورة التوبة (74) في قوله تعالى: «وهمّوا بما لمْ ينالوا» يقول أغلب المفسّرين إنّها نزلت في محاولة المنافقين اليائسة قتل الرسول (صلى الله عليه وسلّم).
يبدو الإشكال الأساسي في التفاسير دائرا حول اعتبار الهمّ بالفعل فعلا أم نيّة من غير فعل. الجواب الذي تذهب إليه الأغلبية أنّه ليس فعلا. غير أنّنا سنرى فيما يأتي أنّ (همّ) لسانيّا فعل تامّ الشروط وأنّ الحديث عنه يجعله من ضروب الإنشاء بالمعنيين البلاغي والتداوليّ.
لقد ميّز النّحاة القدامى بين «أفعال المقاربة» من نوع (كاد وأوشك) و«أفعال الشروع» من نوع (أخذ وجعل وبدأ). ولئن جمع النحاة بين هذين الضربين من الأفعال في قائمة واحدة بناء على اشتراكهما في السلوك الإعرابي (جميعها من النّواسخ التي ترفع الاسم وتنصب الخبر كما في قولنا «كاد الإثم يحصلُ»؛ فإنّ الفارق الدلاليّ بين الشروع والمقاربة هو فرق بين تحقّق الفعل (الشروع) وعدم تحقّقه أو الاقتراب من تحققه (المقاربة). انطلاقا من هذا يمكن القول إنّ الأفعال من جهة التحقّق أو عدمه ليست في ثنائيّة حصريّة : منها ما يقع ومنها ما لا يقع؛ بل هي في مُسْتَرْسَلٍ يشبه طيْف الألوان: فالأفعال التي لم تقع يمكن أن نجد فيها أفعالا كادت تقع أو همّت أن تقع والأفعال التي وقعت تحشر فيها أفعال هي في بداية وقوعها وأخرى متدرّجة في الوقوع وثالثة قد وقعت. من الناحية الإدراكيّة نحن نرى إيقاع الأفعال بهذا الاسترسال ولا ندركه في شكله الثنائيّ الصارم (واقع/ غير واقع). ومضمون الآية القرآنية دائر في نطاق من الأفعال التي لم تحدث واقعا ولكنّها جرت في مستوى نفسي، إذ هي من أفعال النّوايا التي وإنْ لم تتجاوز مرحلة التمثل والتفكير، فإنّ حدوثها في ذلك المستوى هو بداية كبرى لحدوثها العلنيّ أو لوقوعها في الخارج. وتبدو كلمة «خارج» هنا ظالمة لأنّها مرادفة للواقع، غير أنّ «الخارج» قد يرادف أيضا النفس بما أنّ لكلّ لغة خارجا يكون في الواقع أو في النفس.
إنّ المداخل اللغويّة للقراءة والتفسير ليست ذات أبواب كثيرة، فأبوابها معلومة هي الظاهرة اللغويّة لكنّ المشكل فيها أنّ تحديد تلك الظاهرة بدقّة قد لا يكون متاحا لمن يقرأ. من المداخل المفيدة ههنا هو التمييز بين (همّ) و(كاد) فـ(همّ) هي فعل تامّ ينتمي لسانيّا إلى قائمة مفتوحة بما أنّه وِحْدة معجميّة والوحدات المعجميّة لا يمكن أن نحيط بها ولا أن نحصرها لأنّها قابلة للزّوال والولادة في كلّ وقت؛ أمّا الفعل (كاد) فإنّه فعل مساعد بما أنّه لا قيام له إلا بفعل تامّ وهو كلمة نحويّة – كحروف الجرّ وجميع النّواسخ – تنتمي إلى قائمة مغلقة. ولئن أفادت (همّ) وشك وقوع الفعل فإنّ هذا المعنى فيها مستفاد معجميّا ولكنّ (كاد) لا تفيد هذا المعنى إلا تركيبيّا حين تقترن بفعل فتنقله من الحدوث إلى المقاربة من الحدوث. ويفهم هذا من الفرق بين (الرجل يسقط) التي تجعل السقوط واقعا و(كاد الرجل يسقط) التي تجعل السقوط مشارفا على الوقوع ولم يحدث فعلا. هذا أيضا ينطبق على (يوسف همّ بالمرأة) و(كاد يوسف يهمّ بها) فالمقاربة يمكن أن تدخل على فعل يفيد هذا المعنى معجميا. الفرق بين (همّ بفعل شيء) و(كاد يفعله ) أنّ همّ تجعل فعل النيّة والمقاربة فعلا مركزيّا في ذاته بينما (كاد) لا تجعل فعل النيّة أو المقاربة فعلا مركزيّا بل عالقا بفعل آخر هو المركزيّ وليس (كاد) إلاّ مساعدا له. وفي الآية المذكورة تركيز على فعل الهمّ بما هو فعل مركزيّ وليس فعلا ثانويّا فالنيّة والمقاربة هي بؤرة التصوّر وليست بؤرته فعل مقاربة الوقوع. وبالتالي ليست مقاربة المُواقعة والإتيان بالخطيئة هي البؤرة والمقصد كما يظهر في كلام المفسّرين. فإجراء (همّ) على معنى (كاد) يمثل دخولا خاطئا إلى تفسير فعل (همّ).
قد تضيع المداخل اللغويّة إلى التفسير وتتلاشى أو لا تبنى على منطق دقيق أو أنّ المفسّرين يقتلعون الملاحظات اللغويّة من أسسها النظرية ويكفي أن نضرب أمثلة قليلة من هذا الاستئصال المضرّ باللغة وبالنصّ نفسه فلقد جاء في تفسير ابن كثير: «(وهمّ بها..) أي فلم يهمّ بها». فأجرى المفسّر (همّ) على المقاربة (كاد) وجعل المقاربة فعلا معدوما بما أنّه لا أثر لوقوعه خارجا؛ والحقّ أنّ (همّ) لا يمثّل فقط فعلا مركزيّا برأسه على ما بيّنّاه؛ بل إنّه فعل ينشئ كونا مستقلا وليس فعلا معدوما. وقال القرطبي نقلا عن أبي عبيدة : «هذا على التقديم والتأخير كأنّه أراد ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لهَمّ بها»؛ فأوَّلَ الكلام على التقديم والتأخير وأسقط بنية العطف الأساسيّة التي تدلّ على أنّنا إزاء جملتين قد تفترضان ضربين من الهمّ (همّ المرأة وهمّ يوسف) ولكن لا تقتضيان وجود نوعين من الهمّ: همّ وقع وهمّ لم يقع؛ ذلك أن «بُرهان ربّه» لم يوقف الهمّ بالفعل بل أوقف الفعل الناتج عن الهمّ به.
بعض المفسّرين سمّى همّ «حديث نفس من غير عزم» وهي تسمية غير دقيقة لأنّ هذا ليس حديثا، بل هو فعلٌ حقيقيّ الدليل على أنّه كائن بذاته أنّنا نَبْنِيه بالكلام وبه ننشئ الأكوان؛ فهو ليس كالتمني شيئا مستحيلا، بل هو فعل كان واقعا في النفس وإن لم يقع عَيانا.
كثيرة هي الأفعال التي تقع في نفوسنا ولا تقع عيانا نبنيها بالكلام وبه نرمّمها ونتعامل معها على أنّها إنشاء كلام وليست نوايا معلّقة إن شاءت لها الأقدار أن تفعل فُعلت وإن لم تشأ لم تفعل؛ فكلامنا قَدَرُنا الذي يحقّق أكواننا بمجرّد أن ننخرط في الحديث عنها.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة

مقالات ذات صلة

ابق على اتصال

16,985المشجعينمثل
0أتباعتابع
61,453المشتركينالاشتراك

أقلام واَراء

مجلة نضال الشعب