توقفنا في معالجة الثلاثاء الماضي عند طلب نتنياهو العفو من رئيس الدولة. فرض الحدث نفسه. ومع ذلك، لم يكن في الكلام عنه ما يمثل خروجاً عن السياق العام لتحليل صعود نتنياهو في حقل السياسة الإسرائيلية، والمنحنى الهابط الذي لاحت علاماته على مدار العامين الماضيين. لذا، نعود، اليوم، إلى لحظة سبقت طلب العفو بثلاثة عقود، يوم انتخب رئيساً لليكود في العام 1993.
سبق وذكرنا أن النصف الأوّل من التسعينيات كان الأهم في سيرة نتنياهو السياسية. وما يعنينا منه الآن أن انتخابه زعيماً لليكود جاء بعد هزيمة اليمين في انتخابات العام 1992، التي فاز فيها رابين، وتجلى كمحاولة لدفع دماء جديدة وشابة إلى قيادة اليمين، خاصة وأن السياسات الشعبوية، التي كرّسها مناحيم بيغن في الحقل السياسي، صارت تستدعي وجود ساسة قادرين على كسب وتجنيد الناخبين الجدد في مدن التطوير والمستوطنات بالبلاغة والشعارات.
وإلى ما تقدّم تُضاف حقيقة أن الفوز الانتخابي للعماليين وحلفائهم، بزعامة رابين، تجلى كتصويت على «برنامج للسلام» تقدّم به هؤلاء. وإذا وضعنا في الاعتبار كراهية اليمين العميقة والتاريخية لرابين، ضابط المدفعية الذي قصف السفينة ألتالينا (التي تحدى بها بيغن سلطة بن غوريون بعد قيام الدولة 1948)، سنرى أن حقل السياسة الإسرائيلية في العام 1993 كان ملغوماً بعبّوات ناسفة كثيرة، وقبل نهاية ذلك العام وقّعت حكومة رابين اتفاقية أوسلو، وهي الأولى من نوعها في الصراع مع الفلسطينيين.
وبناء عليه، كان على زعيم الليكود الجديد إحباط أوسلو، وإسقاط حكومة رابين. وكلاهما مشروط بالآخر. وقد خاض نتنياهو المعركة الأهم في حياته على مدار عامين منذ انتخابه زعيماً لليكود، وحتى اغتيال رابين في تشرين ثاني 1995.
كان جمهوره حاضراً، وفي انتظاره، في معركة «المصير»، وصار كلاهما يكبر مع الآخر خلال الفترة المعنية، التي شهدت تظاهرات صاخبة، وأعمال احتجاج مختلفة، حيث رفع متظاهرو اليمين صور رابين معتمراً الكوفية الفلسطينية، ووضعوا ملصقات في محطات وسائل النقل العام يبدو فيها بزيّ جنود النازي، وهتفوا ضده «رابين قاتل» و»رابين خائن». وفي السياق نفسه، صدرت عن حاخامات بارزين من معسكر اليمين «فتاوى» تحذّر من مخاطر التخلي عن «أرض إسرائيل»، وما ينتظر العصاة من أنواع العقاب الإلهي، ناهيك عن «فتاوى» تجيز قتل «الخائن».
نعثر بين متظاهري اليمين، خلال الفترة المعنية، على شاب يُدعى إيتمار بن غفير، لم يتجاوز العشرين من العمر، ويبدو أكثر حماسة وميلاً إلى العنف من غيره. وقد صوّرت كاميرا التلفزيون مشهداً يبدو فيه بين متظاهرين نجحوا في الانقضاض على سيارة رابين: تسلّق البعض السطح، والبعض الآخر تحلّق حول النوافذ، ويبدو أن بن غفير هذا نجح في انتزاع علامة الكاديلاك على غطاء محرّك السيارة، واستعرضه مزهوّاً أمام الكاميرا قائلاً: «كما نجح الناس في انتزاع هذه العلامة من سيارته، وكما وصلنا إليها، سنصل إلى رابين».
كان الجنرال المتقاعد بن إليعازر، الذي خدم وزيراً للدفاع أيضاً، في سيارة رابين خلال الحادثة المذكورة، وبحث عن نتنياهو، بعد وصوله إلى الكنيست، قائلاً: «من الأفضل أن تكبح جماح جماعتك، وإلا سينتهي الأمر بجريمة يقتل فيها شخص ما، ودمه على يديك».
والمهم أن طالباً من شبيبة اليمين يدعى ييغال عمير أخذ «فتاوى» الحاخامات على محمل الجد، وقرر قتل «الخائن» فتربّص برابين قرب سيارته في ميدان عام في تل أبيب، بعدما غادر المذكور مهرجاناً نُظّم خصيصاً لدعم مشروع السلام. أطلق أمير ثلاث رصاصات على ظهر رابين، أصابته اثنتان، ولفظ أنفاسه في الطريق إلى المستشفى. وكانت رصاصات أُخرى، مجازية، قد أصابت الاتفاق مع الفلسطينيين في اللحظة نفسها، ولكنه لم يلفظ أنفاسه على الفور.
لم يكن مشروع المحافظين الجدد في الولايات المتحدة (قطع جديد، إستراتيجية جديدة لتأمين المجال) قد تبلور بصورة كافية بعد، ولا كانت قوى مختلفة في بنية الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين قد نفضت يدها من مشروع التفاوض مع الفلسطينيين بعد. لذا، وجد نتنياهو نفسه مضطراً للاجتماع بعرفات، ووقّع معه على اتفاقية واي ريفر، وترتيبات أُخرى بخصوص الخليل.
وما يعنينا من هذا كله الإشارة إلى الدروس البليغة التي خرج بها نتنياهو مع معركته المصيرية الأولى: الفوز في الانتخابات لا يكفي، بل ينبغي بناء القاعدة الانتخابية بسياسات اقتصادية، وبرامج سياسية قابلة للتداول، وذات قابلية عالية للتحريض والتجنيد. وما من شيء أكثر فعالية في موضوع كهذا من سياسات الخوف والهوية.
أما إحباط مشروع الحل مع الفلسطينيين فيبدأ في واشنطن، التي ينبغي نقل التحالف معها، بعد نهاية الحرب الباردة، إلى مستويات أيديولوجية جديدة تسوّغ فيها القيم المشتركة ما بين الطرفين من المصالح المشتركة. بمعنى أن الأولوية للأولى، والثانية تحصيل للحاصل (وهذا بند رئيس في إستراتيجية تأمين المجال).
من الواضح، طبعاً، وبأثر رجعي، أن الدروس التي خرج بها نتنياهو من معركته المصيرية الأولى تحوّلت إلى علامات على طريق الصعود. ومع ذلك، لكل شيء إذا ما تم نقصان. فالسياسات الاقتصادية معطوفة على الاستثمار الشعبوي في سياسات الخوف والهوية، واختراع العدو الدائم والتحذير منه، وضعت الدولة والمجتمع على الطريق إلى حرب الإبادة، وهذه، بدورها، وضعت نتنياهو على الطريق إلى محكمة الجنايات. وقد صار كلاهما جزءاً لا يتجزأ من السيرة والمسيرة.
عن صحيفة الايام





