فايزة كنفاني .. معلمة غسان الأولى ورفيقة الدرب الشائك

2019/07/08
Updated 2019/07/08 at 8:06 صباحًا


رام الله – يامن نوباني/لم يكن استشهاد لميس نجم (17 عاماً) مع خالها غسان كنفاني (36 عاماً) صدفة، فهي ابنة فايزة الشقيقة الكبرى لغسان، الصبية التي نهضت بالعائلة بعد التهجير وسط المنافي المتنقلة.
نشأت بين فايزة وغسان علاقة مميزة، أساسها التعليم في مواجهة الترحيل، والعمل في وجه العراء، الذي باغت العائلة كما حال ما يقارب الـ950 ألف فلسطيني عام النكبة.
فايزة أهدت غسان قلم حبر فاخر، احتفظ به لزمن طويل، وكتب فيه أولى القصص ونصوص التمثيليات، التي قدمت في الإذاعة السورية “برنامج ركن الطلبة” وعلى صفحات جريدة الأيام.
كان والده يعمل في سوق الهال، بينما كان شقيقه الأكبر غازي يعمل بعد الدراسة في معمل زجاج، وكانت والدته تخيط الأقمشة والملابس للمحال التجارية في السوق، بعد ان استعارت ماكينة خياطة يدوية.
في كتابه “غسان كنفاني.. صفحات كانت مطوية” يروي شقيقه عدنان كنفاني، تفاصيل حياة العائلة وبالأخص غسان وما طرأ عليها من تغيرات منذ لحظة النكبة وقبلها وصولا إلى استشهاده، وعلاقته المميزة بشقيقته فايزة، التي حمت وحملت العائلة على ظهرها في بدايات النهضة من ركام النكبة: “أقمنا بعد رحيلنا الأخير من الزبداني بتاريخ 19 تشرين الأول 1948 في حي الميدان بدمشق”.
وحول تعليمهم الابتدائي، يضيف: “فايزة التحقت بمدرسة الثانوية الأهلية التي قبلتها طالبة للاستعداد إلى صف الشهادة الثانوية، وغازي المنتسب الى الصف التاسع (شهادة البروفيه)، وغسان في مدرسة الكلية العلمية الوطنية، بينما انتسب مروان إلى مدرسة خالد بن الوليد طالبا في الصف الخامس، وأنا في مدرسة أسامة بن زيد طالبا في الصف الثاني”.
ويتابع: تحرك الباص الوحيد الذي يخدم مدنا وقرى كثيرة تمتد على طول مسافة تزيد على المائة كيلو متر الى الشمال من مدينة دمشق، يحملنا “فايزة وغسان وأنا” ومجموعة من الفلاحين والمزارعين وسلالهم عبر طريق ضيق ومتعرج وخطر، يرتقي تلال “الثنايا” وينحدر عنها ليرتقي مرة اخرى بمرتفعات القلمون، معلولا، يبرود، القسطل، النبك، دير عطية، وتنتهي الرحلة في قرية قارة، تلك القرية التي كانت موحشة في عام 1949، ببيوتها الطينية، وطرقاتها الترابية، وبساتينها القليلة المتناثرة، على آخر سفوح الجبال الجرداء وشاطئ بادية الشام.. قرية صامتة، إلا من صوت مؤذن الجامع الوحيد أوقات الصلوات، وجلبة تلاميذ المدرسة الابتدائية الوحيدة، التي عينت أختي فايزة للتدريس فيها بعد أن نالت الشهادة الثانوية البكالوريا”.
ويشير عدنان إلى ان العائلة استأجرت لفايزة غرفة متواضعة قريبة من المدرسة، تناوب اشقاؤها على الاقامة فيها مع فايزة.
كان غسان الأكثر حماسة لمرافقة فايزة، يرافقها للمدرسة ويحضر الدروس مع الطلبة، ينظف الغرفة ويرتب الفراش ويغسل الصحون، ويعد لها وجبة طعام وحيدة، وهي عبارة عن مزيج مطبوخ بالسمن من البيض والبندورة والبصل.

يصحو باكرا، يعد لها الحليب، ويرافقها إلى المدرسة، يحمل دفاتر وواجبات التلاميذ والكتب التي تخصها، ثم يعود إلى البيت أو إلى الحقول والبساتين القريبة يختلي مع نفسه ليكتب أو ليرسم، وقد استهوته القرية بتفاصيلها الهادئة وبساطتها.
يتحدث غسان مع بواب المدرسة “فياض”، فيكتب قصة “بطيخة” يتحدث فيها بإسهاب وعفوية عن حياة فياض وما فيها من فقر وظلم. ثم يسمع من “المؤذن” عن الأفعى السامة الكبيرة التي وجدوها ذات يوم تحت حصير الجامع، فيكتب قصة “الأفعى والخروف”.
كانت فايزة تعطي غسان درسا يوميا الزاميا في أصول وقواعد اللغة العربية، وقراءة وتجويد ما تيسر من القرآن الكريم بصوت جهوري عدة مرات، ليتمكن من اتقان النطق والوقوف الصحيح على مخارج الحروف وتشكيلها، وهو ما أسس منذ البدايات نسيج غسان اللغوي والأدبي.
كانت فايزة تشعر وهي تعمل في سن صغيرة وسط ظروف صعبة، بعمق المسؤولية والرغبة الجامحة في تحسين أوضاع عائلتها، ومن أجل تحقيق ما رسمته وافقت أمام أول فرصة سنحت لها بعرض درويش مقدادي مدير معارف الكويت، للعمل كمعلمة مقيمة بعقد مبدئي لمدة سنة قابلة للتجديد، واستمر يتجدد حتى بلغت سن التقاعد بعد 35 عاما.
سافرت فايزة بتاريخ 23 أيلول 1950 من دمشق إلى الكويت، برفقة معلمات متعاقدات، شابة وحيدة صمدت طيلة سنوات وسط مجتمع محافظ، وبعد عدة سنوات برز الضوء الوحيد في حياتها، بزواجها من شاب يعمل في سلك التدريس هناك، اسمه حسين نجم، تعود أصوله لقرية أسدود المهجرة عام 1948 الواقعة قرب غزة.
كانت فايزة ترسل المال لوالدها، وتساهم في تخفيف أعباء الحياة وتوفير مستلزمات البيت، فاشترت أول غسالة كهربائية للبيت، وأول ثلاجة ومكواة وغاز وسجادة، واشترت لأشقائها قمصان وأحذية جديدة، وتتابع دراستهم وتكتب لهم الرسائل.
اكتشفت كما اكتشف والدها، نبوغ غسان الفطري المبكر، فكانت تشتري له الأقلام والدفاتر والكتب وأوراق الرسم وأقلام الفحم والألوان، تقرأ ما يكتب وتدرس معه الكلمة والموضوع والهدف، وتقسو عليه بنقدها.
بينما أدرك غسان في شبابه المبكر كيف ولماذا اختارت فايزة أن تقاتل على عدة جبهات في سبيل تحقيق تنمية وحياة كريمة للأسرة، ما خلق بين غسان وفايزة وابنتها الشهيدة لميس، علاقة مميزة أثمرت رسائل جميلة كتبها لهما وأهداهما بواكير انتاجه الأدبي.
في أيار 1952، نجح غسان في شهادة البروفيه، وفي أواخر العام صدرت موافقة بتعيينه أستاذا للفنون في وكالة الغوث (الأونروا) في معهد فلسطين (الأليانس). فكتب لطلابه في الحصة الأولى: “درس الرسم.. معرض فلسطين للرسم والأشغال”، ليفتتح بعد شهر من العمل المتواصل مع تلاميذه أول معرض يحمل الطابع الفلسطيني، عبر رسومات ومنحوتات بسيطة وملابس وأوانٍ وصور تنتمي إلى الفلكلور والتقاليد الفلسطينية، لينتقل بعدها للتدريس في اعدادية صفد في باب الجابية، وفي عام 1954 حصل على الشهادة الثانوية في الفرع الأدبي، وانتسب الى كلية الآداب في الجامعة السورية.
في 12 أيار 1955 سافر غسان للعمل في الكويت مدرسا للرسم والرياضة في مدرسة خالد بن الوليد، وفي أيار عام 1959 أصيب بمرض السكري، وفي تموز من العام نفسه سافر الى بيروت، ثم عاد الى الكويت في أيلول 1960 ليقدم استقالته من العمل، ليعود مرة أخرى إلى بيروت في تشرين الأول من العام نفسه.
صباح يوم السبت 8 تموز 1972، وتحديدا عند الساعة الحادية عشرة، انفجرت عبوة تزن 9 كغم من مادة الـ”تي ان تي” شديدة الانفجار، تحت مقعد سيارة غسان، فاستشهد مع ابنة أخته لميس.

Share this Article