من مزايا الوطن العربي انه يضم عددا كبيرا من المجموعات الاثنية والدينية والمذهبية والعرقية، وغالبية هذه الاقليات في المنطقة العربية لها جذور تاريخية عميقة وكان لها أثر في التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والايديولوجية. وقد كان من المفترض أن يمثل هذا التنوع عاملا ايجابيا يساهم في إثراء الحياة المجتمعية سياسيا وثقافيا واجتماعيا، ويتم ترجمته كطاقة ايجابية فاعلة إضافية تساهم في الدفع نحو تكريس مفهوم التعايش والتسامح واحترام الحقوق دون مساس بوحدة الوطن الجغرافية وهويته الوطنية.
هذا المسار المنطقي يبدو بديهيا وطبيعيا في المجتمعات المتنوعة التي عاشت مراحل التطور المجتمعي بكل تعقيداتها وصراعاتها وحتى حروبها على مر العصور إلى أن بلغت مرحلة العقد الاجتماعي القائم على عدالة اجتماعية يتقبل فيها أبناء الوطن الواحد تنوعهم العرقي والاثني والديني والثقافي والسياسي، مما ساهم في تعزيز مفهوم المواطنة والدولة القوية . لكن هذه الدول التي كرست مفاهيم الديمقراطية داخل مجتمعاتها، اعتمد بعضها سياسات خارجية تتناقض مع كل ما يفاخرون به داخل بلدانهم، إذ تحولت إلى قوى استعمارية لها مصالحها واهدافها واطماعها، ومن أجل ذلك تجترح دائما الذرائع والمبررات للتدخل في شؤون الدول الأخرى للهيمنة على مقدراتها والسيطرة على قراراتها،وصولا لإثارة الفتن والصراعات لا سيما العرقية والطائفية داخل بعضها وتنصيب حكام خاضعين لارادتها.
وبالعودة إلى الوطن العربي، فإنه لم يتسنى له وعلى مدى قرون،أن يعيش مراحل التطور المجتمعي بسبب تداول الاحتلالات والاستعمارات عليه. كما أن طبيعة الكيانات المصطنعة التي رسمها الاستعمار البريطاني والفرنسي جعل من الاقليات الاثنية والطائفية والعرقية قنابل موقوتة قابلة للانفجار خدمة لمصالح الدول الكبرى. فهذه الاقليات عاجزة عن صياغة مطالبها وتأطيرها في برنامج مشروع وطني مشترك وجعلها مقبولة ومدعومة من قطاعات واسعة من الرأي العام، كما أن حكومات المنطقة العربية عاجزة أيضا عن صيانة الحقوق السياسية والدينية والثقافية لمكونات شعوبها عبر مؤسسات ودستور جامع يصون حقوق الجميع، مما يمنع بناء هوية وطنية متداخلة ومتقاطعة. وبذلك بقيت الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي دولا تضم مجتمعات تعاني من أزمات معلقة وملفات مفتوحة لا تتوفر ظروف معالجتها واغلاقها، وأهمها قضية الاقليات. كذلك فإن اكتشاف النفط والغاز في المنطقة العربية زاد من حدة الاستهداف لهذه المنطقة من العالم،وفتح شهية القوى الاستعمارية للسيطرة على ثروات المنطقة وعلى عقد المواصلات البرية والمائية، فظهرت شعارات “حماية الاقليات” وحقوق الاقليات “باعتبارها مهددة من “الأكثرية “،وتم استخدامها كأحد عوامل الضغط من الدول الكبرى للسيطرة والهيمنة.
ان النظر لمسألة الاقليات من منظار أمني فقط وفشل الانظمة السياسية في المنطقة في إجراء مقاربات موضوعية وديمقراطية لهذه الإشكالية، يبقي الباب مفتوحا أمام الغرب للاستمرار في العزف على هذا الوتر، كما يعطي الفرصة للمتربصين بالمنطقة وبشعوبنا العربية ودولنا،لا سيما لدولة الاحتلال الإسرائيلي ولدول الإقليم الأخرى ،للتدخل المباشر والسافر في شؤوننا الداخلية وإثارة حال من الفوضى واشعال الفتن بين المكونات المجتمعية، والدفع بالاقليات إلى المبالغة في رفع سقف مطالبهم التي تصل نتيجة هذه التدخلات إلى حد المطالبة بالانفصال عن جسم الدولة، أو بالحد الأدنى حكم ذاتي بصلاحيات واسعة هو أقرب إلى الانفصال.
لقد نجحت قوى الاستعمار في الاستثمار في قضية الاقليات في الوطن العربي من خلال تصويرهم كضحايا للأنظمة المركزية والعميقة، وبذلك تحولت إلى أداة استراتيجية بيد قوى النفوذ العالمي والاقليمي،يتم تضخيم مظلوميتها وتوظيفها لتفكيك بنية الدولة وتوسيع دائرة التباينات بين الشرائح المجتمعية المختلفة. وبالمحصلة نشأت علاقات بين بعض النخب السياسية في الاقليات من جهة وبعض القوى الغربية والاقليمية من جهة أخرى، تطورت إلى تنسيق أمني ومعلوماتي أدى في بعض حالاته إلى تحويل التنوع الذي من المفترض أن يشكل مصدر غنى للمجتمع والدولة، إلى أداة اختراق جيوسياسي وأحيانا عسكري.
لقد رسم الاستعمار ادوارا ووظائف جديدة للاقليات في العالم العربي لتصبح أداة استراتيجية في خدمة مشروعهم في المنطقة من خلال ركيزتين اساسيتين:حدود مصطنعة تم رسمها بدقة من قبل الاستعمار الفرنسي والبريطاني لضمان إثارة النزاعات العرقية والاثنية والقومية،وهياكل أنظمة تم فيها منح بعض الاقليات امتيازات تعليمية وقانونية واسعة كالموارنة في لبنان والاقباط في مصر والعلويين في سوريا بإنشاء الدولة العلوية عام ١٩٣٦ ،مع فتح قنوات مباشرة مع قوى الاستعمار. في المقلب الآخر فإن صعود التيارات العروبية في مرحلة ما بعد الاستقلال أدى في كثير من الحالات إلى تهميش الاقليات كالاكراد والبربر والشيعة والارمن وغيرهم،والنتيجة كانت توترات تحولت في بعض حالاتها إلى أعمال عنف وحروب أهلية. فطبيعة النظام الذي كرسه الاستعمار الفرنسي في لبنان من خلال مشروع لبنان الكبير عام ١٩٢٠ وما تضمنه من تكريس للطائفية واقصاء الآخر وتعزيز ثقافة الفرنكفونية والعنصرية الثقافية أدى في نهاية المطاف إلى فشل التوازن الطائفي واشعال حرب أهلية طاحنة لم تنتهي ارتداداتها إلى يومنا هذا رغم توقفها منذ عقود. كذلك شهدت دول عربية أخرى حركات تمرد من الاقليات كالسودان والبربر في الجزائر والأكراد في العراق في زمن الرئيس الراحل صدام حسين.
لا يمكن لأحد أن يتنكر لحق الاقليات بالمشاركة في إدارة شؤون اوطانهم على قدم المساواة مع باقي الشرائح والكتل المجتمعية والسياسية، كما لا يمكن إنكار حقهم بالمطالبة باصلاحات تنقل الوطن الموحد إلى دولة وطنية قائمة على العدالة الاجتماعية وحقهم في الحفاظ على ثقافتهم وتقاليدهم ولغتهم في إطار نظام يؤمن العدالة في الحقوق والواجبات والحماية للجميع. لكن ما يحصل في عالمنا العربي يشير إلى نوايا أخرى مختلفة. فمع الغزو الامريكي للعراق أصبحت الاقليات جزءًا من منظومة المحاصصة الطائفية تقودها اجندات اقليمية ودولية. فظهرت إلى العلن العلاقات بين قيادات كردية وإسرائيل، كما اشارت صحف إسرائيلية إلى وجود شركات إسرائيلية في اربيل. كذلك تحولت الاقليات في مناطق أخرى إلى اطراف فاعلة في مشهد الصراع، كالعلويين في سوريا والحوثيين في اليمن ، وتحول البعض إلى شريك مباشر في التفاوض مع القوى الخارجية بما فيها إسرائيل طلبا للحماية ودعم الانفصال كحكمت الهجري في السويداء في سوريا، مع تهديد آخرين بالحكم الذاتي كالامازيغ والطوارق في ليبيا، وقوات قسد في سوريا.
تكشف هذه المرحلة من تاريخ منطقتنا كيف تحولت بعض الاقليات إلى أدوات وظيفية في خدمة مشاريع اقليمية ودولية منها الامريكي والاوروبي و الإسرائيلي والتركي والايراني ، مكنت هذه الدول من خلق مسار للابتزاز وضرب الدولة المركزية والعمل على تفكيكها من خلال تفعيل دور الاقليات وتحويلها من مكون وطني الى فاعل انفصالي .
لكن النتيجة الأخطر على الإطلاق هي أن هذه التحولات قد نقلت إسرائيل من كيان منعزل يبحث عن الحماية الامريكية والغربية إلى قوة اقليمية مهيمنة عبر الارهاب الوظيفي ، حيث كان لدول اقليمية من خلال ادواتها في التيارات الاخوانية واخواتها وفي مجموعات المحور الممانع ، حيزا كبيرا ساهم في الوصول إلى هذا الواقع الأليم.